الاجتهاد و التقليد

اشارة

سرشناسه : تقوي اشتهاردي، حسين، - 1304

عنوان و نام پديدآور : تنقيح الاصول: تقرير ابحاث الاستاذ الاعظم... روح الله الموسوي الامام الخميني قدس سره/ تاليف حسين التقوي الاشتهاردي

مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظيم و نشر آثار الامام الخميني(س)، 1378.

مشخصات ظاهري : ج 4

شابك : 964-335-146-7(ج.1) ؛ 964-335-147-5(ج.2) ؛ 964-335-148-3(ج.3) ؛ 964-335-149-1(ج.4)

يادداشت : عربي

يادداشت : ج. 4 - 1 (اول: 1418ق = 1376): بهاي هر جلد متفاوت

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس

موضوع : اصول فقه شيعه

شناسه افزوده : خميني، روح الله، رهبر انقلاب و بنيانگذار جمهوري اسلامي ايران، 1368 - 1279

شناسه افزوده : موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني(س)

رده بندي كنگره : BP159/8 /ت7ت9 1378

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : م 78-12310

الفصل الأوّل ذكر شؤون الفقيه

اشارة

إنّ هنا عناوين لا بدّ من البحث عنها و عن أحكامها، و هي ستّة:

الأوّل: فيمن لا يجوز له الرجوع إلىٰ غيره في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.

الثاني: فيمن يجوز له العمل برأي نفسه أو يجب؛ بمعنى كونه مثاباً أو معذوراً.

الثالث: فيمن هو أهل الفتوى.

الرابع: فيمن حكمه نافذ في رفع الخصومات.

الخامس: فيمن حكمه نافذ في الامور السياسيّة الإسلاميّة.

السادس: فيمن يجوز لغيره الرجوع إليه و تلقّي الأحكام الشرعيّة الفرعيّة منه.

و نحن نذكر هذه العناوين الستّة في ضمن امورٍ:

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 586

الأمر الأوّل حكم مَن له قوّة الاستنباط فعلًا

إنّ الكلام فيمن له ملكة استنباط الأحكام الفرعيّة عن مداركها، و له قوّة استخراجها عن مآخذها، و بلغ في تحصيل مقدّمات الاجتهاد و الاستنباط حدّاً و مرتبة، يقدر معها على ردّ الفروع إلى الاصول و إن لم يستنبطها بالفعل، فهل هو قبل الاستنباط جاهل بالحكم الشرعي الفرعي، لكن لا يجوز له الرجوع إلى غيره و تقليده؛ و ذلك لأنّه لا دليل لفظيّ يدلّ على وجوب رجوع الجاهل إلى العالم بنحو الإطلاق؛ ليتمسّك بإطلاقه في المقام، بل الدليل على جواز التقليد في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة- كما سيجي ء بيانه إن شاء اللّٰه تعالى- هو بناء العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة في كلّ فنّ في جميع امورهم، كما في الصناعات و نحوها، و منها الأحكام الشرعيّة- الأوّليّة و الثانويّة- حيث إنّها مشتركة بين جميع المكلّفين و أنّهم كلّهم مخاطبون بالخطابات الشرعيّة، و لا اختصاص لها بفرقة و طائفة دون فرقة و طائفة اخرى، و هذا البناء منهم إنّما هو فيما إذا لم يكن الشخص الجاهل بالفعل من أهل الخبرة، و له قوّة يمكنه بها تشخيص ما هو جاهل به بالفعل و حصول العلم به، فلا

دليل على جواز رجوعه إلى الغير؛ لتكون فتوى الغير عذراً له مع الخطأ، مع تمكّنه من الرجوع إلى الأدلّة، و معرفة الأحكام، و استنباطها من مداركها.

لا يقال: قد يرجع من هو أهل الخبرة في فنّ إلى غيره في أحكام ذلك الفنّ؛ لئلّا يُتعب نفسه بالاجتهاد، أو لغيره من الأعذار العرفيّة، كالطبيب، فإنّه قد يرجع إلى طبيب آخر في الطبابة، و قضيّة ذلك جواز الرجوع إلى الغير فيما نحن فيه أيضاً.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 587

لأنّه يقال: إنّ ذلك مسلَّمٌ في الامور الراجعة إلى شخصه، و الأغراض العائدة إلى نفسه، فيترك الاجتهاد في فنّ لغرض من الأغراض مسامحة، و أمّا في الامور المرتبطة بالمولى، و المطالب و الأحكام الدائرة بين الموالي و العبيد، فلا، و لم يثبت أيضاً أنّ السرَّ في بناء العقلاء على أصالة الصحّة في فعل الغير و نحوها من الارتكازيّات العقلائيّة، كرجوع الجاهل إلى العالم، هو إلغاءُ احتمال الخلاف؛ لمكان مرجوحيّته و حصول الوثوق الشخصي به؛ لانتقاضه بعدم استقرار بنائهم على ذلك في موارد اخر مع الشكّ في الصحّة و عدم حصول الوثوق بها.

و دعوى تحقّق الوثوق النوعي تفتقر إلى ثبوت التعبّد بها، و هو مفقود.

و حينئذٍ فمن المحتمل أن يكون السرّ في بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم في كلّ فنّ، هو انسداد باب العلم فيه؛ بمعنى دخله في بنائهم على ذلك، أو لأجل لزوم اختلال نظامهم و معاشهم بدونه، و افتقارهم في بقاء نظامهم إلى ذلك، مضافاً إلى أنّ الآراء في المحسوسات قليلة الاختلاف و متقاربة، بخلافها في الأحكام الشرعيّة في غير الضروريّات، فإنّه قلّما توجد مسألة في غير الضروريّات لا توجد فيها أقوال و آراء مختلفة

بين الفقهاء، بل فقيه واحد في كتبه، ففي مثل ذلك لا تكون فتوى الغير عذراً بالنسبة إلى من يتمكّن من استنباطها بنفسه، بل يكفي في عدم الجواز و المعذوريّة عدم إحراز بناء العقلاء عليه في مثله.

فتلخّص: أنّ جواز رجوع الجاهل إلى العالم ليس بنحو الإطلاق.

و من عرّف الاجتهاد: بأنّه ملكة يقتدر بها على استنباط الأحكام الشرعيّة «1»، فهو صحيح بالنسبة إلى الشخص القادر على الاستنباط و إن لم يستنبطها فعلًا، و منطبق عليه، و هو موضوع عدم جواز الرجوع إلى الغير.

______________________________

(1)- زبدة الاصول: 115.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 588

و يتفرّع عليه عدم جواز الرجوع إلى الغير بالنسبة إلى من صدر له من المجتهدين الإجازات للاستنباط، و عبّروا فيها: بأنّ له ملكة الاستنباط، و يحرم عليه الرجوع إلى الغير من غير فرق بين من له ملكة استنباط مطلق الأحكام و جميعها، و من له ملكة استنباط بعضها؛ بناءً على جواز التجزّي في الاجتهاد، كما هو الحقّ، بل الواقع أيضاً، فإنّ تلك القوّة و إن قلنا إنّها بسيطة، لكنّها ذات مراتب تحصل تدريجاً.

و ما يقال: من إنّ مدارك الأحكام متشتّتة في جميع أبواب الفقه، فلا يمكن فرض قدرته على الاجتهاد في بعض أبواب الفقه فقط؛ لاحتمال وجود ما يصلح دليلًا على المسألة في باب آخر أو معارضاً.

مدفوع: بعدم صحّة ذلك و عدم استقامته في تلك الأزمنة التي جمع فيها مدارك كلّ باب و أخباره فيه؛ بحيث تطمئنّ النفس بعدم وجود ما يصلح للاستدلال به في ذلك الباب في باب آخر، كباب الطهارات بالنسبة إلى أبواب الحدود و الدِّيات.

نعم مع الشكّ في تحقّق الملكة فالأصل عدمها، فلا بدّ من إحرازها.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4،

ص: 589

الأمر الثاني بيان مقدّمات الاجتهاد

فلا ريب في أنّه بمجرّد وجود ملكة الاستنباط لشخص لا يجوز الرجوع إليه و تقليده، بل له شرائط- بعضها دخيلة في نفس الملكة، و بعضها في جواز العمل برأيه- فمع عدم اجتماع تلك الشرائط لا يجوز الرجوع إليه، و ليس معذوراً لو قلّده و عمل برأيه.

فمن الامور التي هي دخيلة في حصول القوّة و ملكة الاستنباط: تحصيل العلوم العربيّة بمقدار يميّز به اصطلاحات العرب، و يفتقر إليها في فهم معاني الكلمات العربيّة و تراكيب الكلام العربي، فمع عدم ذلك ليس معذوراً في مخالفة الواقع لو ظنّ بالحكم الفعلي، بل و مع القطع به أيضاً.

و منها: الانس بالاصطلاحات المتداولة عند أهل اللسان و استقامة ذهنه و عدم اعوجاجه؛ لكثرة اشتغاله بالمطالب العقليّة و الفلسفيّة و بعض مباحث الاصول و المطالب العقليّة الدقيقة في المعاني الحرفيّة، فإنّ كثيراً من هذه المطالب مانع عن الاستنباط الصحيح المستقيم. نعم بعض مباحث المنطق و الكلام و الاصول ممّا له دخْل في الاستنباط، كمباحث الأقيسة و نحوها لتمييز الصحيحة عن السقيمة؛ و ذلك لأنّ المخاطب بالخطابات الشرعيّة هم العرف العامّ، و أنّ المعيار فيها هو الانفهامات العرفيّة.

و منها: علم الاصول، و هو واضح، و لعلّ إنكار الأخباريّ له «1» ناشٍ عن

______________________________

(1)- الفوائد المدنية: 40.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 590

زعمه: بأنّ ما ذهب إليه الاصوليّون من حجيّة الإجماع- مثلًا- يراد به ما هو حجّة عند العامّة: من حجّيّة اتّفاق العلماء و إجماعهم بما أنّه إجماعهم، و إلّا فعلى مبنى الإماميّة رضوان اللّٰه عليهم- من أنّ حجّيّته إنّما هي لأجل كشفه عن قول المعصوم عليه السلام- فلا سبيل له إلى إنكاره، و عدمُ كشف قول المعصوم

عليه السلام به عنده، لا يوجب الطعن على من هو كاشف عنه عنده.

كما يحتمل أن يكون إنكاره القواعد الاصوليّة، ناشٍ عن أنّ مثل العلّامة و السيّد 0 و نحوهما، قد يذكرون الاستحسانات و الأقيسة الباطلة في مقام الاستدلال، و لكنّه غفل عن أنّ ذكرهم لها ليس على وجه الاستدلال بها للمسألة، بل ذكروها إلزاماً للمخالفين بمعتقدهم، بعد الفراغ عن ثبوت أصل المسألة على طبق مبانيها الصحيحة؛ أ لا ترى أنّهم ربّما يستدلّون بالأخبار الواردة من طرق العامّة، مع وضوح عدم حجّيّتها عندهم، فطعن الأخباري بذلك على الاصولي إنّما هو لعدم التفاته إلى ذلك، و إلّا فلا مفرّ للأخباري عن العمل بكثير من المسائل و المطالب الاصوليّة، مثل حجّيّة الظواهر و أخبار الآحاد و ظهور الأمر في الوجوب و أمثال ذلك.

و منها: علم الرجال، ما يميّز به الثقة عن غيره.

و منها: العلم بالكتاب و السُّنّة- و هو العمدة- فلا بدّ للمستنبط من ملاحظة الآيات في كلّ مسألة و حكمٍ و معرفة مورد نزولها، و كذلك الأخبار و الغور فيها، و تحصيل الانس بمذاق الأئمّة عليهم السلام، و كيفيّة محاوراتهم.

و منها: مراجعة أقوال الأصحاب خصوصاً المتقدّمين منهم الذين كانوا قريبي العهد بهم عليهم السلام؛ لئلّا يخالف فتواه إجماعهم، و احترازاً عن الفتوى بخلاف الشهرة بينهم.

و ذكر المحقّق البهبهاني قدس سره في «فوائده»: أنّ من شرط الاجتهاد حصول

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 591

القوّة القدسيّة، و أطال الكلام في ذلك «1»، فراجع.

و مع اجتماع هذه الشرائط يجوز له العمل برأيه بعد الفحص عن الأدلّة و معارضاتها.

ثمّ اعلم: أنّ هذا بعينه هو الموضوع لجواز الإفتاء؛ لعدم كونه من المناصب المفتقرة إلى الإذن و النصب، بل هو

إظهار لرأيه الذي يجوز له العمل على وفقه، فما طعن به الأخباري و منعه عن الاجتهاد و الاستنباط «2» اغتراراً ببعض الروايات «3»، منشؤه توهّم: أنّ المراد به هو ما عند العامّة و منه طريقتهم، و إلّا فلا محيص للأخباري عن الاجتهاد و إعمال المرجّحات عند تعارض الأخبار، و القول بحجيّة الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم عليه السلام أو الإجماع الدخولي، كما أنّ المجتهد أخباريّ أيضاً؛ بمعنى أنّه يعمل على طبق الأخبار، فالنزاع بين الفريقين لفظيّ.

______________________________

(1)- الفوائد الحائريّة، المحقّق البهبهاني: 337.

(2)- الفوائد المدنية: 40، سفينة النجاة، ضميمة الاصول الأصيلة: 70.

(3)- وسائل الشيعة 18: 20، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 592

الأمر الثالث البحث حول منصب القضاء و الحكومة

اشارة

من العناوين المتقدّمة: «مَنْ يجوز قضاؤه و ينفذ حكمه و فصل الخصومة بحكمه»، و هو المهمّ في هذا المقام، فلا بدّ من بسط الكلام فيه و البحث عنه، و قبل الخوض فيه لا بدّ من تحرير مقتضى الأصل فيه.

فنقول: الأصل و مقتضى القواعد العقليّة عدم سلطنة أحدٍ على أحد، و عدم نفوذ حكمه على غيره؛ لا في رفع الخصومات و المنازعات، و لا في الامور السياسيّة التي يحتاج الناس إلى إقامتها، و إن كان نبيّاً و رسولًا من اللّٰه إليهم، و عالماً بعلوم الأوّلين و الآخرين، فإنّه لا ارتباط لباب فصل الخصومة و القضاء و السلطنة بكون الشخص عالماً عادلًا، بل و نبيّاً، بحيث يثبت له السلطنة على الناس من دون احتياج إلى الجعل من اللّٰه تعالىٰ، فإنّ مجرّد النبوّة لا يستلزم عقلًا حكومته على الناس، و قاضياً يحكم بينهم؛ بحيث لم تجز لأحد مخالفته، و إن كان مُحقّاً في الواقع و حكمه مطابقاً للواقع، بل

يحتاج هذا المنصب إلى الجعل و النصب؛ لينفذ حكمه، و لم تجز مخالفته و إن علم الخصم المنازع بأنّه محقّ في الواقع، كما لو حلف المدّعى عليه: أنّه ليس بمديون لزيد المدّعي، و حكم الحاكم الشرعي بذلك، فإنّه لا يجوز لزيد أخذ المال المدّعى به و إن علم بكونه مُحقّاً في الواقع، فالقاضي يحكم من عنده، لا أنّه يُخبر عن حكم اللّٰه تعالىٰ، و لو أخبر بحكم اللّٰه في مورد المنازعة لم تنفصل به الخصومة.

و كذلك الكلام في نصب الولاة، فإنّ أمير المؤمنين كان ينصب الولاة في البلاد من قِبَل نفسه- بعد جعل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الولاية و السلطنة له- لا عن اللّٰه تعالىٰ

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 593

بالوحي أو الإلهام، فالذي يحكم به العقل هو سلطنة خالق الناس و وليّ جميع النِّعم؛ من حيث إنّ الكلّ مخلوقون له تعالىٰ، و أمّا غيره تعالىٰ فسلطنته على الناس محتاجة إلى الجعل و النصب.

لكن لا إشكال و لا ريب في ثبوت جعل السلطنة للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم للآيات الشريفة، مثل قوله تعالىٰ: «النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» «1» و قوله تعالىٰ: «وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» «2»، و هو من ضروريّات دين الإسلام، و كذلك بالنسبة إلى أمير المؤمنين و الأئمّة من ولده بعده عليه السلام بضرورة من المذهب، و لا كلام فيه، و إنّما الكلام في ولاية غير النبيّ و الأئمة عليهم السلام من الفقهاء في هذا العصر و الزمان.

فنقول: لا ريب في أنّ نبوّة نبيّنا صلى الله عليه و آله

و سلم أكمل النبوّات، و شريعة الإسلام أتمّ الشرائع و أكملها، و لا شريعة بعدها، و أنّه صلى الله عليه و آله و سلم بيّن و بلّغ جميع الأحكام و الآداب و اروش الجنايات، حتّى آداب الأكل و النوم و نحو ذلك، كما أخبر صلى الله عليه و آله و سلم بذلك في حجّة الوداع.

القضاء و الحكومة في زمان الغيبة

و من الواضح أنّ القضاء و فصل الخصومة، و كذلك الامور السياسيّة التي نعلم بعدم رضا الشارع بإهمالها، و تحتاج إليها الرعيّة أشدّ الاحتياج، و لا ينتظم بدونها نظامهم و معاشهم، لا يمكن عقلًا للشارع إهمالها و عدم تعيينه لمن يتصدّى لها في زمان الغيبة، مع إخباره صلى الله عليه و آله و سلم عن حال الناس زمان الغيبة، و إلّا يلزم النقص في الشريعة.

______________________________

(1)- الأحزاب (33): 6.

(2)- الأحزاب (33): 36.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 594

و بالجملة: نعلم علماً قطعيّاً جازماً بجعل الشارع و نصبه من يتولّى هذه الامور و يتصدّيها، و ينفذ حكمه و تصرّفاته في الامور السياسيّة في هذا الزمان إجمالًا، فلا بدّ من ملاحظة أنّه من أيّ صنف من أصناف الناس، و القدر المتيقّن ثبوته للفقيه الجامع للشرائط؛ للعلم بأنّه منصوب من قِبَلهم عليهم السلام: إمّا بالخصوص، و إمّا لأنّه من جملة المنصوبين بملاحظة الأخبار الواردة في تعريف العلماء، مثل قوله عليه السلام:

(علماء امّتي كأنبياء بني إسرائيل)

«1»، و قوله عليه السلام:

(مجاري الامور بيد العلماء باللّٰه، الامناء على حلاله و حرامه)

«2» و نحو ذلك، و بعض هذه الأخبار ضعيف السند، لكن لا إشكال فيها بالنسبة إلى القدر المتيقّن، و هو الفقيه الجامع لكلّ ما يحتمل اعتباره في ذلك من الشرائط و الأوصاف.

و هذا الذي ذكرناه

قريب ممّا ذكره الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام في رواية «العلل» عن الفضل بن شاذان، في مقام بيان احتياج الناس إلى نصب الإمام و جعل الوالي «3».

الأخبار الدالّة على ثبوت منصب الحكومة و القضاء للفقيه

اشارة

و أمّا الأخبار الخاصّة الدالّة على ثبوت منصب الحكومة و القضاء للفقيه:

فمنها:

مقبولة عمر بن حنظلة، و فيها قوله: قلت: فكيف يصنعان؟

قال: (ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا، فليرضوا به حَكَماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا

______________________________

(1)- الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة: 113، الفوائد المجموعة: 286، عوالي اللآلي 4: 77/ 67.

(2)- تحف العقول: 169، بحار الأنوار 97: 79/ 37.

(3)- عيون أخبار الرضا 2: 99- 100/ 1.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 595

حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم اللّٰه، و علينا ردّ ...).

إلى أن قال: فإن كان كلّ واحد اختار رجلًا من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرينِ في حقّهما، و اختلفا فيما حكما، و كلاهما اختلفا في حديثكم؟

فقال: (الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما)

«1» الخبر.

و حيث إنّه عليه السلام في هذه الرواية في مقام البيان، وجب الأخذ بالقيود التي ذكرها عليه السلام، و الحكم باعتبارها في القاضي:

فمنها: قوله عليه السلام:

(منكم)

فيدلّ على اعتبار كون القاضي إماميّاً اثني عشريّاً.

و منها: قوله عليه السلام:

(قد روى حديثنا)

لا يبعد أن يراد منه من شُغْله ذلك؛ أي كان محدِّثاً، فلا يشمل من روى حديثاً أو حديثين مثلًا، كما لا يبعد إرادة كونه فقيهاً لا مجرّد نقل الأخبار؛ حيث إنّ المتعارف في الأزمنة السابقة نقل الروايات بنحو الفتوى، كما لا يخفى على من لاحظ كتب المتقدّمين من الأصحاب، و هي تدلّ أيضاً على اعتبار الاجتهاد و الاستنباط؛

لقوله عليه السلام:

(نظر في حلالنا و حرامنا)

؛ أي الحلال و الحرام اللّذينِ نحن مبلِّغوها و مبيِّنوها، فيظهر من ذلك اعتبار كون القاضي من أهل النظر و الاجتهاد، فليس للمقلّد القضاء و الحكومة و رفع الخصومة بين المتنازعين؛ لأنّه ينظر إلى فتوى مقلّده و مجتهده، و كذلك قوله عليه السلام:

(و عرف أحكامنا)

، فإنّ العرفان و المعرفة- لغة و عرفاً- إنّما يصدق إذا ميّز حكم اللّٰه عن غيره، كالصادر تقيّةً و لو بالموازين الشرعيّة.

و يؤيّد ذلك: فهم ابن حنظلة ذلك منه؛ حيث إنّه قال:

(و كلاهما اختلفا في حديثكم)

هو أراد الاختلاف في معنى حديث واحد أم أراد أنّ أحدهما أخذ بحديث منكم و الآخر بحديث آخر، فإنّه فهم ممّا ذكره عليه السلام من القيود و الشرائط اعتبار

______________________________

(1)- الكافي 1: 54/ 10، وسائل الشيعة 18: 98، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 596

الاجتهاد و الفقاهة في القاضي، و لذا سأل عن الفرض الذي ذكره.

و كذلك قوله عليه السلام:

(أفقههما)

فجميع تلك الشرائط و القيود إنّما تنطبق على الفقيه المجتهد، فلا إشكال في دلالة الرواية على ثبوت منصب الحكومة و القضاء للفقيه الجامع للشرائط فقط، مضافاً إلى الإجماع المحقَّق، بل تدلّ على ثبوت السلطنة و الولاية له في الامور السياسيّة أيضاً؛ لأنّ الراوي ذكر- في صدرها-

عن رجلين بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى الطاغوت؛ أي إلى السلطان و القضاة، أ يحلّ ذلك؟

قال: (من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل، فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ...)

إلى آخره؛ حيث إنّ الامور التي يرجع فيها عند العرف إلى السلطان و الوالي، غير الامور التي يرجع فيها إلى

القاضي، و المنازعة في الدَّين و الميراث قد يُرجع فيها إلى القاضي، كما لو ادُّعي عليه دين أو ادُّعي أنّه وارث لفلان، فأنكره الآخر، فإنّه يرجع فيه إلى القاضي، و قد يرجع فيهما إلى السلطان، كما لو امتنع عن أداء دينه أو ميراثه مع اعتراف الآخر به، فإنّه لا يرجع فيه إلى القاضي، بل إلى الوالي و السلطان، و لذا قال:

(فتحاكما إلى السلطان و إلى القاضي)

، ففي ذكر كلّ واحد منهما إشعار بما ذكرنا، كما أنّ ذكر المنازعة في الدَّين و الميراث أيضاً من باب المثال.

و يؤيّد ذلك: أنّه عليه السلام قال:

(من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت)

، فإنّ الطاغوت يناسب الولاة و السلاطين الذين طغوا غاية الطغيان، لا القضاة الذين لا يصدر منهم إلّا الحكم و القضاء، لا الظلم و الطغيان، فقوله عليه السلام:

(إنّي جعلته حاكماً)

ظاهر في أنّه جعله حاكماً مطلقاً في الامور الراجعة إلى الولاة و القضاة جميعاً؛ لأنّه جواب عن سؤال ابن حنظلة: أنّه كيف يصنعان؟ بعد منعه عليه السلام عن الرجوع إلى سلطانهم و قضاتهم، و مقتضاه الرجوع إليهم في جميع الامور.

نعم قد يتوهّم: أنّ قوله عليه السلام:

(فإذا حكم بحكمنا)

ظاهر في الأحكام الشرعيّة،

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 597

فيختصّ بها.

لكنّه في غاية السقوط، فإنّه خلاف الظاهر، فلا يُصار إليه إلّا مع قرينة على ذلك، بل هو ظاهر في إرادة حكمهم عليهم السلام من حيث السلطنة، و يدلّ على ذلك: أنّه حكم عليه السلام بأنّ الرادّ على الفقيه رادّ على رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، و الرادّ عليه صلى الله عليه و آله و سلم رادّ على اللّٰه تعالىٰ؛ لأنّه تعالى جعل

السلطنة للرسول صلى الله عليه و آله و سلم و جعلها رسول اللّٰه للإمام عليه السلام، و الإمام عليه السلام للفقيه، فلو اريد منه حكم اللّٰه الشرعي، فالرادّ على الفقيه ليس رادّاً على الإمام و النبيّ، بل رادّ على اللّٰه.

و أمّا فرض الراوي السؤال عن اختلاف الحكَمين في الحديث، فلا ينافي عموم الصدور للقضاء و الولاية، فإنّه سؤال خاصّ عن اختلاف الحكَمين في الحديث، و من فروع الكلّيّة المذكورة أوّلًا، فلا يصلح قرينة على إرادة خصوص القضاء من الصدور، فهذه الرواية مقبولة سنداً، و تامّة دلالةً على ثبوت منصب القضاء و الولاية في الامور السياسية للفقيه.

و منها:

ما رواه الشيخ قدس سره بإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن أبي الجهم، عن أبي خديجة، قال: بعثني أبو عبد الله عليه السلام إلى أصحابنا، فقال: (قل لهم: إيّاكم- إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شي ء من الأخذ و العطاء- أن تَحاكَموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، و إيّاكم أن يُخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر)

«1». و في سند هذه الرواية إشكال: و هو أنّه إن كان أبي الجهم هذا هو بكير بن أعين، و أنّ الحسين بن سعيد هو الأهوازي، ففي السند إرسال؛ لأنّ بكير توفّي في عصر

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام 6: 303/ 846، وسائل الشيعة 18: 100، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 598

الإمام الصادق عليه السلام، و الحسين بن سعيد من أصحاب الرضا عليه السلام، فيبعد روايته عنه بلا واسطة.

و يحتمل أن

يكون الحسين بن سعيد هذا هو الحسين بن سعيد بن أبي الجهم، و أنّه رواها عن جدّه، و هو أيضاً بعيد، لكن الرواية مشهورة حتّى لُقّبت بها، فيمكن جبر ضعف سندها بالشهرة.

و الظاهر أنّ المراد بالقاضي هو معناه عند العرف و اللّغة، و هو الحاكم الأعمّ من القاضي- المصطلح عليه في الفقه- و الوالي، و تقدّم أنّ المرجع في بعض المنازعات هو القاضي في الاصطلاح الفقهي، و في آخر منها الوالي و السلطان، فتدلّ على ثبوت منصب القضاء و الولاية للفقيه.

و يؤيّد ذلك: أنّه عليه السلام نهى عن الرجوع إلى السلطان الجائر في ذيلها في الامور الراجعة إليه، و هو قرينة على إرادة ذلك من الأمر بالرجوع إلى من له منصب الولاية أيضاً- أي الفقيه- فهي بحسب الدلالة مثل المقبولة.

و منها: روايته الاخرى و هي أوضح دلالة على المطلوب، و هي

ما رواها الصدوق عن أحمد بن العائذ، عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال، قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: (إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضائنا فاجعلوه بينكم قاضياً، فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه)

«1». و بقرينة نهيه عليه السلام عن الرجوع إلى أهل الجور- الذي يعمّ الولاة- يراد من المأمور بالرجوع إليه الأعمّ من القاضي و الوالي.

و أمّا الروايات الاخر المستدلّ بها في المقام، فبعضها ضعيفة السند، و بعضها

______________________________

(1)- الفقيه 3: 2/ 1.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 599

ضعيفة الدلالة، و بعضها ضعيفة السند و الدلالة:

فمنها:

ما رواه في «اصول الكافي» في باب ثواب العالم و المتعلّم عن القدّاح عن أبي عبد اللّٰه عليه

السلام قال: (قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: من سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك اللّٰه به طريقاً إلى الجنّة، و إنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ...).

إلى أن قال: (إنّ العلماء ورثة الأنبياء، و إنّ الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً و لا درهماً، و لكن ورَّثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظّ وافر)

«1». و منها:

رواية أبي البختري عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: (إنّ العلماء ورثة الأنبياء، و ذاك أنّ الأنبياء لم يورِّثوا درهماً و لا ديناراً، و إنّما أورَثُوا أحاديث من أحاديثهم)

«2». و عبّر عنها النراقي قدس سره بصحيحة أبي البختري «3»، و لكنّه سهو لضعفها.

و تقريب الاستدلال بها: هو أنّ فيها احتمالين:

أحدهما: أنّ الإمام عليه السلام في مقام إنشاء جعل وراثة العلماء للأنبياء.

ثانيهما: أنّ ذلك إخبار عنها.

فعلى الأوّل: فقضيّة إطلاقها هو ثبوت مطلق ما للأنبياء من الشؤون و المناصب لهم سوى النبوّة، إلّا ما دلّ الدليل على خلافه.

و أمّا قوله عليه السلام في الذيل:

(و لكن ورثوا العلم و الأحاديث)

فلا يصلح قرينة على اختصاص الصدر بخصوص العلم و الأحاديث فقط، فالحصر فيها إضافيّ قطعاً؛ من جهة إرث العلماء منهم في كثير من الامور الاخر، كالزهد و التقوى و غيرهما.

______________________________

(1)- الكافي 1: 26/ 1.

(2)- الكافي 1: 24/ 2، وسائل الشيعة 18: 53، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 2.

(3)- عوائد الأيّام: 185- 186.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 600

و أمّا نقل الأحاديث و الفتاوى فلا يحتاج إلى الجعل، بخلاف بعض شؤون الأنبياء و مناصبهم، كمنصب القضاء و السلطنة و الخلافة و نحوهما.

و بالجملة: دلالتها على المطلوب- على هذا التقدير- واضحة.

و أمّا بناءً على أنّه إخبار عن

أمر واقع، فيمكن تقريب الاستدلال بها على المطلوب أيضاً: بأنّ الإخبار عن وراثة العلماء لهم عليهم السلام بقول مطلق، يكشف عن ثبوت إرثهم المناصب المجعولة للأنبياء؛ لأنّ صحّة هذه الأخبار بقول مطلق، يكشف عن ثبوت شؤون الأنبياء- المفتقرة إلى الجعل- لهم، سوى الامور التكوينيّة الموروثة منهم. و قوله عليه السلام في الذيل:

(إنّما ورّثوا العلم)

و أمّا اختصاصه بالذكر فهو من جهة أنّه الفرد الجليّ الكامل.

لكن يمكن الإشكال في دلالتها على المطلوب على هذا التقدير: بأنّ استفادة إرث العلماء منه لجميع شؤون الأنبياء محلّ تأمّل؛ لصدق ذلك على إرثهم منهم بعض الأشياء، كالعلم و تبليغ الأحكام، كما أنّ مقتضى سياق الروايتين- خصوصاً الاولى التي ذكر فيها وضع الملائكة أجنحتها لطالب العلم- هو أنّ ذلك إخبار لا إنشاء، و حينئذٍ فهما لا تصلحان للاستدلال بهما في المقام.

و منها:

مرسلة الصدوق قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: (قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم:

اللّهمّ ارحم خلفائي).

قيل: يا رسول اللّٰه و مَن خلفاؤك؟

قال: (الذين يأتون من بعدي يروون حديثي و سُنّتي)

«1». تقريب الاستدلال بها: هو أنّ الخلافة عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم عبارة عن ثبوت بعض المناصب الثابتة له صلى الله عليه و آله و سلم للخليفة أيضاً، و أمّا قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

(الذين يأتون من

______________________________

(1)- الفقيه 4: 302/ 95، وسائل الشيعة 18: 65، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 50.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 601

بعدي)

فهو معرِّف لهم، و ليس المراد أنّهم خليفته صلى الله عليه و آله و سلم في نقل الأخبار فقط، فالظاهر تماميّة دلالتها على المطلوب، و الظاهر اعتبارها سنداً؛ لأنّها

و إن كانت مرسلة، لكنّ الصدوق قدس سره أسندها إليه عليه السلام بنحو البتّ، لا بقوله: «و رُوي».

و منها:

رواية فقه الرضا عليه السلام: (منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء من بني إسرائيل)

«1». و هي واضحة الدلالة على عموم المنزلة، لكن الإشكال في سندها.

و منها: التوقيع المذكور في كتاب «إكمال الدين و إتمام النعمة»

عن محمّد بن محمّد ابن عصام، عن محمّد بن يعقوب، عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمّد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل اشكلت عليّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عليه السلام: (أمّا ما سألت عنه- أرشدك اللّٰه و ثبّتك- ...) إلى أن قال:

(و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، و أنا حجّة اللّٰه عليهم)

«2». و فيه أوّلًا: أنّها ضعيفة السند بإسحاق بن يعقوب، و ما ذكره الشيخ الأعظم «3» و الميرزا النائيني 0 «4»- من أنّه من أجلّة العلماء- غير ثابت.

و ثانياً: أنّ السؤال فيها غير معلوم، فمن المحتمل سؤاله عن الأحكام التكليفيّة، و معه لا تعمّ الحوادث المذكورة فيها جميع الوقائع و الامور غير الأحكام التكليفيّة مثل ما هو محلّ الكلام.

______________________________

(1)- فقه الرضا: 338.

(2)- إكمال الدين: 483/ 4، وسائل الشيعة 18: 101، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.

(3)- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 154 سطر 28.

(4)- منية الطالب 1: 326 سطر 8.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 602

و منها:

رواية «تحف العقول»: (مجاري الامور بيد العلماء باللّٰه، الامناء على حلاله و حرامه)

«1». و فيه: أنّ سياقها شاهد على أنّها في مقام الشكاية من الخلفاء الغاصبين لحقوقهم عليهم السلام، فالظاهر أنّ المراد من العلماء فيها أنفسهم

عليهم السلام، مضافاً إلى ضعف سندها؛ لعدم اعتبار كتاب «تحف العقول».

و منها: قوله عليه السلام:

(علماء امّتي أفضل- أو- كأنبياء بني إسرائيل)

«2»، و هي ظاهرة في أنّ المراد من العلماء أنفسهم عليهم السلام، لكن لا إشكال في أصل المطلب.

لا يقال: إنّه قد عبّر في الروايات المذكورة- كالمقبولة- بقوله عليه السلام:

(و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا)

، و مقتضاه العلم بالأحكام الشرعيّة، و الفقهاء في هذه الأزمنة ليسوا كذلك، فلا تصلح هذه الرواية أيضاً لإثبات منصب القضاء لهم، فضلًا عن الولاية، فإنّه يقال: إنّ سياق المقبولة شاهد على أنّ المراد بالأحكام: هي التي عرفها بالنظر و الاجتهاد و الفكر و الاستنباط، و من المعلوم عدم حصول العلم القطعي لأحد بالأحكام غالباً حتّى من متلقّي الأحكام من الأئمّة عليهم السلام شفاهاً؛ لاحتمال التقيّة و غيرها، الذي لا دافع له إلّا الاصول العقلائيّة و الموازين الاجتهاديّة، التي لا تفيد العلم.

مضافاً إلى أنّ المراد من العلماء- في الإطلاقات عرفاً- هم العالمون بالعلوم المتفرّقة، الحاصلة من الطرق المتعارفة بالنظر و الاجتهاد، الذي لا يفيد إلّا الظنّ، لا العلم بالأحكام الواقعيّة.

و لا يحتاج في دفع هذا الإشكال أن يقال: إنّه و إن كان ظانّاً بالحكم، لكنّه عالم بالوظيفة، بل لا يصحّ ذلك؛ لأنّ الظاهر أنّ المراد هو العلم بنفس الحكم.

______________________________

(1)- تحف العقول: 169، بحار الأنوار 97: 79/ 37.

(2)- عوالي اللآلي 4: 77/ 67، الدرر المنتثرة: 113، السلسلة الضعيفة، الألباني: 666.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 603

هل الاجتهاد المطلق شرط أم لا؟

ثمّ إنّه- بناءً على جواز التجزّي في الاجتهاد- هل تعمّ الروايات للمتجزّي أيضاً، أو لا؟

فنقول: قد يطلق الاجتهاد على الملكة المطلقة و قوّة استنباط جميع الأحكام و إن لم يستنبطها بالفعل، و

المتجزّي حينئذٍ في مقابله من ليس له القوّة على استنباط جميع الأحكام، بل في بعض الأحكام.

و قد يطلق الاجتهاد و يراد منه العلم الفعلي بجميع الأحكام، و فعليّة استنباطها من مآخذها، و المتجزّي في مقابله: من ليس له العلم الفعلي بجميع الأحكام، بل بعضها و إن كان له قوّة ذلك و ملكته.

إذا عرفت ذلك نقول: ليس في الروايات ما يدلّ على اعتبار وجود الملكة المطلقة؛ و قوّة استنباط جميع الأحكام، كما أنّه ليس هنا دليل على اعتبار العلم الفعلي بجميع الأحكام، بل الذي تدلّ عليه المقبولة و نحوها، هو اعتبار وجود قوّة النظر و الاجتهاد و معرفة الأحكام، و حينئذٍ يرد هنا إشكالٌ: و هو أنّ العُمدة في الأخبار هي الرواية المقبولة، و هي ظاهرة في اعتبار العرفان في جميع الأحكام؛ لقوله عليه السلام:

(و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا)

؛ لأنّ المفرد و الجمع المضافين يفيدان العموم، مع أنّه لا يوجد في هذه الأزمنة من الفقهاء من يعرف جميع الأحكام بالفعل.

لكن هذا الإشكال مندفع: بأنّه من الواضح أنّه عليه السلام لا يريد من قوله:

(جعلته حاكماً)

تعجيز المكلّف و ردعه عن الرجوع إلى أحد، بل هو في مقام جعل الفقيه حاكماً، فلا بدّ أن يريد عليه السلام من يصدق عليه أنّه عارف بالأحكام في الجملة بالنظر و الاجتهاد؛ لعدم وجود العارف بجميع الأحكام بالفعل سوى الإمام عليه السلام، و على فرض وجوده ليس لنا طريق إلى إحراز ذلك.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 604

مضافاً إلى أنّه في مقابل الردع عن الرّجوع إلى المنحرفين عن أهل البيت عليهم السلام و ولاة الجور، و مقابلهم الغير المنحرفين عنهم الآخذين من علومهم، و يشمل ذلك من

عرف بعض الأحكام، نعم لا بدّ أن يعلم موازين القضاء و رفع الخصومة بمناسبة الحكم و الموضوع، و لذا اعتبره الفقهاء إجماعاً.

و أمّا قوله عليه السلام في رواية أبي خديجة:

(يعلم شيئاً من قضايانا)

لا يُراد منه العلم ببعض المسائل الغير المرتبطة بباب القضاء؛ و إن لم يعرف موازين القضاء بالضرورة.

فتلخّص: أنّه لا يستفاد من الروايات اعتبار الملكة المطلقة، و لا العلم الفعلي بجميع الأحكام، فتشمل المتجزّي الصادق عليه أنّه عارف بالأحكام بالنظر و الاجتهاد، مع علمه بموازين القضاء كذلك.

جواز تولّي العامّي القضاء و عدمه

اشارة

هل يجوز للعامّي المقلِّد تولّي القضاء و فصل الخصومة؛ لو تعلّم كيفيّة القضاء و خصوصيّاته على طبق فتوى مجتهده؛ في عرض ثبوته للمجتهد و نفوذه؛ بحيث لا يفتقر إلى إذن المجتهد أو إجازته، أو لا؟

ذهب صاحب الجواهر «1» ابتداء إلى الأوّل، و استدلّ عليه بآيات و روايات، و ذكر منها ما يمكن الاستدلال به له:

فمن الآيات قوله تعالىٰ: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» «2».

تقريب الاستدلال: أنّ إطلاق الحكم بوجوب الحكم بالعدل يعمّ غير المجتهد

______________________________

(1)- جواهر الكلام 40: 49.

(2)- النساء (4): 58.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 605

أيضاً، فهو مأمور بالحكم بالعدل، و وجب حينئذٍ على غيره إنفاذ حكمه، و إلّا يلزم لغويّة الأمر بالحكم بالعدل.

و فيه: أنّ ظاهر الآية- مع قطع النظر عن الأخبار الواردة في تفسيرها- هو أنّ من عنده أمانة فهو مأمور بأدائها، دون من ليس عنده أمانة؛ لأنّه لا معنى له، و بمناسبة ذلك لا يُراد فيما بعده وجوب الحكم على كلّ أحد.

مضافاً إلى أنّ مفادها وجوب الحكم بالعدل على وليّ الحكومة.

و بعبارة اخرى: الآية في مقام بيان كيفيّة القضاء،

لا وجوب القضاء على كلّ أحد.

و أمّا الروايات الواردة في تفسيرها، فهي

ما رواه الصدوق قدس سره عن مُعلّى بن خنيس، عن الصادق عليه السلام قال: قلت له: قول اللّٰه عزّ و جلّ: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» قال: (عدل الإمام أن يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده، و امرت الأئمّة أن يحكموا بالعدل، و امر الناس أن يتّبعوهم)

«1». و في رواية اخرى: (هذه الآية لنا، و قوله: «أَطِيعُوا اللّٰهَ» لكم) «2»، و الظاهر منها أنّ المراد بالأئمّة أنفسهم عليهم السلام، و يحتمل إرادة الأعمّ منهم عليهم السلام، و من الولاة من قبلهم، و لكنّها لا تدلّ على المطلوب، فإنّها تدلّ على وجوب متابعة الناس لهم، لا جواز حكمهم بين الناس، مضافاً إلى أنّ المتعارف في جميع الأعصار عدم تصدّي كلّ أحد لأمر القضاء، بل كان ذلك مختصّاً بعدّة خاصّة معيّنة، حتّى في ولاة الجور، فلا تدلّ على المطلوب.

و منها: مفهوم قوله تعالىٰ: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ

______________________________

(1)- الفقيه 3: 2/ 2، تهذيب الأحكام 6: 223/ 533، وسائل الشيعة 18: 4، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 6.

(2)- انظر الكافي 1: 217/ 1.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 606

الْكٰافِرُونَ» «1»، و في آية اخرىٰ: «هُمُ الْفٰاسِقُونَ» «2»، و في ثالثة: «هُمُ الظّٰالِمُونَ» «3».

و فيه أيضاً: أنّ المستفاد من هذه الآيات الواردة في كتمان أحكام التوراة: أنّهم كانوا يخفون كثيراً من تلك الأحكام، و يكتمونها، فنزلت هذه الآيات في مذمّة ذلك و حرمته، و هو غير ما نحن بصدده، فإنّ المراد منها الأحكام الشرعيّة التي أنزل

اللّٰه تعالى، و حكم القاضي ليس ممّا أنزل اللّٰه.

و منها قوله تعالىٰ: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ لِلّٰهِ شُهَدٰاءَ بِالْقِسْطِ» «4».

و هي أيضاً لا تدلّ على المطلوب.

و أمّا الروايات التي استدلّ بها على ذلك: فمنها

مشهورة أبي خديجة المتقدّمة- أي سالم بن مكرم الجمّال- قال: قال أبو عبد اللّٰه جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: (إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم، فإنّي جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه)

«5». تقريب الاستدلال: أنّ إطلاق قوله:

(يعلم شيئاً من قضايانا)

شامل لعلم المقلِّد كيفية القضاء آخذاً من مجتهده.

و فيه: أنّ إضافة القضايا إلى أنفسهم تدلّ على إرادة العلم الحاصل بالاجتهاد

______________________________

(1)- المائدة (5): 44.

(2)- المائدة (5): 47.

(3)- المائدة (5): 45.

(4)- المائدة (5): 8.

(5)- الكافي 7: 412/ 4، تهذيب الأحكام 6: 219/ 8، وسائل الشيعة 18: 4، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 607

من رواياتهم، و لو اريد من القضايا الأحكام الشرعيّة، فالمراد الأحكام التي نحن وسائط في بيانها و تبليغها، و لو اريد منها الحكومة و القضايا المصطلح، فالمراد القضايا الصادرة منهم المنتشرة عنهم.

و بالجملة: لا تشمل الرواية علم المقلِّد بكيفيّة القضاء آخذاً من مجتهده.

و منها:

رواية الحلبي، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: ربّما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشي ء، فيتراضيان برجل منّا.

فقال: (ليس هو ذاك، إنّما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف و السوط)

«1». و يمكن تقريب الاستدلال في موضعين منها على المطلوب

. أحدهما: قوله:

(فيتراضيان برجل منّا)

؛ أي من الشيعة الاثني عشرية، فيشمل العامّي أيضاً.

ثانيهما: قوله عليه السلام:

(هو الذي يجبر الناس ...)

إلى آخره؛ من حيث حصره عليه السلام عدم جواز القضاء بمن

يجبر الناس، فيدلّ على جوازه لمن ليس كذلك، الشامل للعامّي أيضاً.

أقول: في قوله عليه السلام:

(ليس هو ذاك)

إجمال، و من المعلوم أنّه إشارة إلى مطالب معهودة بينه عليه السلام و بين الحلبي، و هي غير معلومة، و من الممكن أنّها ممّا يصلح للقرينية على المراد، مضافاً إلى أنّ كلمة «

إنّما

» في هذا الخبر ليست للحصر- على فرض دلالتها عليه في سائر الموارد- لانتقاضه طرداً و عكساً، فإنّ مقتضاه جواز القضاء من قضاة العامّة إذا لم يكن لهم سوط و سيف، مع أنّه ليس كذلك، و عدم جوازه لإمام الحقّ إذا كان له سوط و سيف، كأمير المؤمنين عليه السلام، و هو ظاهر الفساد.

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام 6: 223/ 532، وسائل الشيعة 18: 5، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 8.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 608

و أمّا ما تمسّك به صاحب الجواهر- من سائر الآيات و الروايات- فلا دلالة لها على المطلوب أصلًا، فهي بالإعراض عنها أولىٰ.

نعم أشار قدس سره «1»- في خلال كلامه- إلى أمر نتعرّض له بتوضيح منّا: و هو أنّ الاجتهاد المتعارف في هذا الزمان، لم يكن متداولًا في الصدر الأوّل و في عصر الأئمّة عليهم السلام، بل هو حادث من زمان الشيخ قدس سره إلى هذه الأعصار، و حينئذٍ فالمراد من قوله عليه السلام في المقبولة:

(و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا)

هو معرفة الأحكام بالطريق المتعارف في ذلك العصر بتلقّيها منهم عليهم السلام مشافهة، نظير علم المقلّدين في هذا العصر، آخذاً من مجتهده مشافهة، فيشمل علم المقلّدين أيضاً.

و لكن يدفعه ما سيجي ء بيانه- إن شاء اللّٰه-: من أنّ الاجتهاد بهذا النحو المتعارف في هذا العصر كان

محقّقاً و متعارفاً في ذلك العصر أيضاً؛ لاختلاف الأقوال و تشتّت الآراء فيه أيضاً، غاية الأمر أنّه لم يكن يفتقر إلى تلك المشقّات الكثيرة الناشئة عن بُعد زماننا عنهم عليهم السلام و عن عصرهم؛ لأنّ الاختلافات و الأقوال في هذا الزمان أكثر من عصرهم، فلا يتحقّق الاجتهاد في هذا العصر إلّا بتتبّع الأدلّة و معارضاتها و الأقوال و الإجماعات، بخلافه في ذلك العصر؛ لعدم احتياجه فيه إلى تلك المشقّات الكثيرة، و إلّا فأصل الاجتهاد و النظر في الأحكام كان متحقّقاً فيه أيضاً، و إلّا يلزم عدم جواز القضاء لمثل زرارة و محمّد بن مسلم و أمثالهما، مع أنّ صدق معرفة الأحكام و النظر في الحلال و الحرام بالنسبة إلى أمثالهم أوضح من صدقه على المجتهدين في هذه الأعصار.

و بالجملة: اختصاص منصب القضاء بالمجتهدين من المسلّمات، و لا يحتاج إلى إتعاب النفس و زيادة البحث و الكلام فيه؛ للمقطع بعدم جواز القضاء للعامّي المقلِّد،

______________________________

(1)- جواهر الكلام 40: 49.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 609

كما ذكر صاحب العروة «1»، و هذه المباحث مباحث علميّة فقط.

هل يجوز للفقيه نصب العامّي للقضاء أم لا؟

ثمّ إنّه بناءً على عدم جواز استقلال العامّي للقضاء، فهل للفقيه نصبه قاضياً، و ينفذ حكمه بما أنّه عامّي، و يفصل بحكمه الخصومة، مثل حكم الفقيه المنصوب من قبل الأئمّة عليهم السلام- بما أنّه حكم الفقيه- أو لا يجوز ذلك؟ وجهان:

فيمكن أن يقال بالجواز لأمرين:

أحدهما: أنّه للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و الأئمّة نصب أيّ شخص يريدونه للقضاء حتّى العامّي؛ لثبوت الولاية التامّة و المطلقة لهم.

ثانيهما: كلّ ما ثبت للنبيّ و الأئمّة عليهم السلام، فهو ثابت للفقيه؛ لأدلّة ولايته و تنزيله منزلتهم.

فينتج هذان الأمران أنّ للفقيه أن

ينصب العامّي للقضاء، و ينفذ حكمه حينئذٍ.

لا يقال: المقبولة تدلّ على خلاف ذلك.

لأنّه يقال: كما أنّ للأئمّة عليهم السلام نصب الفقيه للقضاء؛ لمصلحة اقتضت ذلك، فلو اقتضت المصلحة أن ينصب الفقيهُ العامّيَّ جاز له ذلك.

و لكن الإشكال في الأمر الأوّل الذي هو صغرى للاستدلال المذكور، فإنّه لا إشكال في أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لو نصب العامّي للقضاء، كشف ذلك جوازه له و ثبوته، و لكنّ الكلام في أنّه هل يجوز ذلك له صلى الله عليه و آله و سلم بحسب الحكم الشرعي الإلٰهي، أو لا يجوز له صلى الله عليه و آله و سلم ذلك كما في الأمر بالجور و جعل الفاسق إماماً؟

______________________________

(1)- العروة الوثقى 3: 7.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 610

و قوله تعالىٰ: «أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ»* «1» لا يدلّ على وجوب إطاعته لو أمر بشي ء حتّى لو أمر فرضاً بإطاعة فاسق، و لا يدلّ أنّ له بحسب حكم اللّٰه ذلك، و حينئذٍ فيمكن دعوى القطع بعدم أهليّة العامّي لمنصب القضاء؛ بملاحظة الأخبار الواردة في باب القضاء، مثل قوله عليه السلام في الصحيح لشُريح:

(جلست مجلساً لا يجلس فيه إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ)

«2» مع الأدلّة الدالّة على ثبوته للفقيه أيضاً، و بملاحظة السيرة المستمرّة- من لدن عصر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى عصر الأئمّة عليهم السلام و الخلفاء- على اختصاص هذا المنصب بالفقهاء، و لا أقلّ من الشكّ في أهليّته بحسب حكم اللّٰه لذلك، المستلزم للشكّ في أنّ النبيّ جعله له أوْ لا، و هو كافٍ في المقام.

و أمّا الأمر الثاني الذي هو كبرىٰ الاستدلال، فإن اريد منه أنّ كلّ ما

ثبت للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فهو ثابت للفقيه، حتّى المختصات به صلى الله عليه و آله و سلم، التي تبلغ نيّفاً و سبعين؛ بناءً على ما ذكره العلّامة في «التذكرة» «3»، و كذلك كلّ ما ثبت للأئمّة عليهم السلام و إن كان من مختصّاتهم، فهو واضح الفساد.

نعم لو اريد منه ثبوت كلّ ما ثبت للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من الشؤون بما أنّه سلطان و حاكم- من الشؤون المربوطة بالسلطان و الحاكم- للفقيه، فلا سبيل إلى إنكاره، بل هو مقتضى المقبولة، و ليس معنى الخلافة و تنزيل الفقيه منزلة الإمام إلّا ذلك.

و دعوى لزوم تخصيص الأكثر إنّما تصحّ لو اريد ثبوت جميع ما ثبت للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم للفقيه أيضاً حتّى المختصّات، فإنّه مستلزم له حينئذٍ، بخلاف ما لو اريد منه ثبوت ما ثبت له صلى الله عليه و آله و سلم من شؤون السلطنة و الحكومة فقط، و إلّا فيلزم هذا

______________________________

(1)- النساء (4): 59.

(2)- الكافي 7: 406/ 2، تهذيب الأحكام 6: 217/ 509، وسائل الشيعة 18: 6، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 2.

(3)- تذكرة الفقهاء 2: 565 فما بعدها.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 611

الإشكال بالنسبة إلى الإمام أيضاً؛ لعدم ثبوت مختصّات النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم له عليه السلام، لكنّ الإشكال حينئذٍ في الأمر الأوّل.

هل يجوز توكيل العامّي للقضاء؟

ثمّ إنّه بناءً على عدم جواز نصب العامّي للقضاء- كما هو الحقّ- هل يجوز للفقيه توكيله في ذلك؛ بمعنى نفوذ حكمه- بما أنّه حكم موكِّله الفقيه- و فصلِهِ للخصومة، أوْ لا؟

و الاستدلال لجوازه: بأنّ الوكالة من الامور العقلائيّة،

كما في مثل البيع و الشراء و نحوهما، و يكفي فيها عدم ردع الشارع عنها؛ من دون افتقار إلى عموم أو إطلاق لفظيّ، و ما نحن فيه من هذا القبيل.

مدفوع: أمّا أوّلًا: فلأنّ ملاحظة الروايات الدالّة على اختصاص القضاء بالنبيّ و الوصيّ و الفقيه النازل منزلتهما، مثل قوله عليه السلام لشُريح:

(جلستَ مجلساً لا يجلس فيه إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ)

، مع الروايات الدالّة على تنزيل الفقيه منزلة الإمام «1»، و كذلك السيرة المستمرّة من الخلف إلى السلف على تخصيص هذا المنصب بالفقهاء، يُشرِف المتأمّل على القطع بعدم أهليّة العامّي حتّى بعنوان الوكالة و النيابة، و إن لم يعتبر في الوكالة تنزيل الوكيل منزلة الموكِّل كما في النيابة.

و ثانياً: إنّما يصحّ التمسّك ببناء العقلاء مع عدم الردع عنه شرعاً؛ لو ثبت هذا البناء منهم في عصر الأئمّة عليهم السلام، مع كونه بمرأىً و منظر منهم، مع عدم ردعهم عنه، و ما نحن فيه ليس كذلك؛ لعدم بنائهم على ذلك في عصرهم عليهم السلام، بل الثابت خلافه،

______________________________

(1)- الظاهر أنّه ليس منقولًا باللفظ، بل إشارة إلى بعض ما ورد في الأحاديث متفرّقاً كخبر أحمد بن إسحاق، راجع الكافي 1: 265/ 1، وسائل الشيعة 18: 99، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 4.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 612

فلا يتمّ الاستدلال.

نعم، لو ثبت و وجد في أدلّة الوكالة من الأخبار عموم أو إطلاق لفظيّان، أمكن التمسّك بهما في المقام، لكن ليس فيها ما هو كذلك، إلّا

رواية معاوية بن وهب و جابر بن يزيد جميعاً، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنّه قال: (من وكّل رجلًا على إمضاء أمر من الامور، فالوكالة ثابتة

أبداً حتّى يُعلمه بالخروج منها، كما أعلمه بالدخول فيها)

«1». و لكنّها أيضاً ليست في مقام أنّ الوكالة جائزة في أيّ أمر، أو في كلّ أمر، بل في مقام بيان أنّ وكالة الوكيل بعد ثبوتها له، باقية إلى أن يُعلمه بالعزل عنها.

فتلخّص: أنّ هذا المنصب يختصّ بالفقيه، و لا حظّ للعامّي فيه أصلًا بوجهٍ من الوجوه؛ لا استقلالًا و لا وكالة و لا نيابة.

______________________________

(1)- الفقيه 3: 47/ 1، تهذيب الأحكام 6: 213/ 502، وسائل الشيعة 13: 285، كتاب الوكالة، الباب 1، الحديث 1.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 613

الأمر الرابع تشخيص مرجع التقليد و الفتوىٰ

اشارة

يقع الكلام فيمن يجوز تقليده و الرجوع إليه في أخذ فتواه و العمل بها، و أنّه هل هو خصوص الأعلم، أو مطلق المجتهد المطلق، أو الأعمّ منه و من المتجزّي؟ فإمّا أن يعلم بعدم مخالفة غير الأعلم للأعلم في الفتوى، أو المتجزّي للمجتهد المطلق، أو يعلم بالمخالفة، و إمّا أن يعلم ذلك إجمالًا في بعض فتاواهما، و إمّا أن لا يعلم بالموافقة و المخالفة في فتاواهما؛ لا تفصيلًا و لا إجمالًا.

و قبل الشروع في البحث لا بدّ من تحرير الأصل في المسألة؛ ليرجع إليه عند عدم الدليل.

مقتضى الأصل: وجوب تقليد الأعلم

فنقول: لا ريب في أنّ باب التقليد ليس من باب السببيّة، فلا طائل في البحث عنه على هذا الفرض؛ للقطع بأنّ فتوى المجتهد طريق للوصول إلى الأحكام الشرعيّة الواقعيّة، لا أنّه تتحقّق بها مصلحة ملزمة أو غير ملزمة فيما تعلّق به نظره و اجتهاده بلا ريب و لا إشكال، فهو نظير رجوع المجتهد إلى خبر الثقة و العمل به في أنّه طريق إلى الواقع.

و حينئذٍ فيمكن تقرير الأصل؛ و أنّ مقتضاه الرجوع إلى الأعلم و تقليده تعييناً بوجوه:

الأوّل: أنّا نعلم بوجود أحكام واقعيّة مشتركة بين العالم و الجاهل، لا تختصّ

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 614

بطائفة دون طائفة، و يجب موافقتها بحكم العقل بالامتثال العلمي، و لا أقلّ من الاطمئنان الذي يعدّ علماً عند العقلاء، فالاكتفاء بالظنّ و العمل بالأمارات يحتاج إلى دليل، و لكن وجوب الامتثال العلمي و تعيّنه بالاجتهاد في الأحكام أو العمل بالاحتياط- أي الامتثال العلمي الإجمالي- خلاف الإجماع بل الضرورة؛ لاستلزامه الاختلالَ في النظام و المعاش و العسرَ و الحرجَ الشديدين، فيكفي تقليد الفقيه المجتهد في معرفة الأحكام، فإنّه ممّا وصل

إلينا يداً بيدٍ من زمن الأئمّة عليهم السلام و ليس من الامور الحادثة، بل كان متعارفاً في الأعصار السابقة، حتّى في عصر الأئمّة عليهم السلام، و القدر المتيقّن هو جواز الرجوع إلى الأعلم و العمل بفتواه للعلم بجوازه إمّا تعييناً- كما قيل:

إنّ وجوب تقليد الأعلم ممّا تسالم عليه العلماء إلى زمان الشهيد الثاني قدس سره «1»- أو تخييراً بينه و بين تقليد غير الأعلم، كما ذهب إليه جمع ممّن تأخّر عنه «2»، فالرجوع إلى الأعلم و تقليده مجزٍ قطعاً، و الرجوع إلى غيره و تقليده مشكوك الجواز، فيحتاج إلى الدليل.

الثاني: أنّ المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير، بعد ما ثبت أنّ حجّيّة فتوى المجتهد من باب الطريقيّة إلى الواقع، و المختار فيه هو التعيين، خصوصاً في صورة الشكّ في حجّيّة طريق؛ لاعتبار القطع بالحجّيّة للطريق المسلوك في مقام الامتثال، و فتوى الأعلم كذلك؛ للعلم بحجّيّتها- إمّا تعييناً، أو تخييراً- و اعتبار فتوى غير الأعلم يحتاج إلى الدليل؛ لما عرفت من أنّه لا إشكال هنا في التعيين، و إن لم نقل به في سائر موارد دورانه بين التعيين و التخيير، مع أنّ الحقّ فيها أيضاً ذلك.

و الفرق بينه و بين الوجه الأوّل: هو أنّ الأوّل إنّما هو بمناط القدر المتيقّن و من طريقه، بخلاف هذا الوجه، فإنّه بمناط الدوران المذكور.

______________________________

(1)- مطارح الأنظار: 272.

(2)- مناهج الأحكام و الاصول: 301، ضوابط الاصول: 413، القوانين المحكمة 2: 247- 248.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 615

الثالث: تقريبه بطريق الانسداد؛ بأن يقال: لو لم يجز الرجوع إلى الأعلم في مقام الامتثال و تقليده، لزم إمّا إهمال الوقائع، و هو باطل بالضرورة، و إمّا الاحتياط، و هو

مستلزم لاختلال النظام و المعاش، و إمّا الرجوع إلى غير الأعلم فيلزم ترجيح المرجوح على الراجح، كما تقدّم في باب الانسداد، فإذا بطلت التوالي الثلاث ثبت المقدّم، و هو وجوب تقليد الأعلم.

و فيه: أنّ إهمال الوقائع و إن كان خلاف الضرورة، و كذلك الاحتياط التامّ موجب لاختلال النظام و العسر و الحرج، لكن التجزّي في الاحتياط لا يوجب ذلك، كالأخذ بأحوط أقوال المجتهدين؛ لعدم العلم بوجود التكاليف خارجاً عن دائرة أقوالهم.

و أمّا المقدّمة الأخيرة- و هو لزوم ترجيح المرجوح على الراجح- فإن اريد منه أنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى غير الأعلم، فهو ممنوع؛ لأنّه كثيراً ما توافق فتوى غير الأعلم فتوى الأعلم من الفقهاء الماضين.

مضافاً إلى أنّ دليل الانسداد لا ينتج إلّا وجوب التبعيض في الاحتياط، كما قرّرناه في الانسداد الكبير.

و قد يقال: الأصل عدم تعيّن وجوب تقليد الأعلم؛ لأنّه لو فرض هنا مجتهدان متساويان في العلم و لا أعلم منهما، فالعقل يحكم بالتخيير بينهما بعد بطلان وجوب الاحتياط، فلو صار أحدهما بعد ذلك أعلم من الآخر فيشكّ حينئذٍ في بقاء التخيير و عدمه، فقضيّة استصحاب بقاء التخيير هو التخيير بينهما، و بعدم القول بالفصل بينه و بين سائر الموارد يثبت المطلوب؛ أي التخيير مطلقاً.

و قد يعارض ذلك بما لو فرض وجود مجتهد واحد لا غير، فإنّه يتعيّن تقليده، فلو وجد مجتهد آخر بعد ذلك، لكنّ الأوّل أعلم من هذا، فيشكّ في بقاء تعيين تقليد الأوّل الأعلم و عدمه، يستصحب تعيّن تقليده، و بعدم القول بالفصل يثبت تعيّن

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 616

الرجوع إلى الأعلم مطلقاً، و هو المطلوب.

و أورد الشيخ على الأوّل على ما في التقريرات: بأنّ

التخيير الثابت أوّلًا، إنّما هو مع القطع بتساويهما في العلم و عدم المرجّح لأحدهما، و أمّا مع وجود المرجِّح فلا يجري الاستصحاب «1».

و هذا الإيراد مع إجماله لا يصلح للجواب عنه.

و اجيب عنه أيضاً: بأنّ الحكم العقلي بالتخيير في صورة تساويهما مرتفع قطعاً، مع احتمال عروض المرجّح لأحدهما، فلا مجال لاستصحابه؛ للعلم بارتفاعه.

و اورد عليه: بأنّ الحكم العقلي و إن كان مرتفعاً لكنّ الحكم الشرعي المستكشف من هذا الحكم العقلي مشكوك البقاء، فيستصحب.

و التحقيق ما قدّمناه سابقاً: من أنّ الأحكام الشرعيّة المستكشفة من الأحكام العقليّة- بناءً على ثبوت الملازمة بينهما- تابعة للأحكام العقليّة المستكشَف بها، و أنّ موضوعهما واحد، و لا يعقل اختلاف موضوعهما في السعة و الضيق، فمتعلّق حكم العقل هو العنوان الكلّي، مثل عنوان الظلم الذي يحكم العقل بقبحه، و يستكشف منه حكم الشرع بحرمته بما هو ظلم، ثمّ بعد انطباق هذا العنوان على المصداق الخارجي، يصير هو محكوماً بحكمي العقل و الشرع المذكورين، فلو احتمل بعد ذلك انطباق عنوان آخر عليه لا يحكم العقل معه بالقبح، مثل عنوان المفسد في الأرض، فبمجرّد هذا الاحتمال ينتفي حكم العقل بقبحه قطعاً، و يتبعه حكم الشرع المستكشَف من حكم العقل لاتّحاد مناطهما، فيتلازمان في الوجود و عدمه، و ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ حكم العقل بالتخيير في تقليد المجتهدين المذكورين، إنّما هو بمناط تساويهما في العلم، فيُكشف به حكم الشرع بذلك بهذا المناط، لا على الموضوع الأعمّ أو الأخصّ من موضوع حكم

______________________________

(1)- انظر مطارح الأنظار: 273 سطر 19 و 23.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 617

العقل، فإنّه غير معقول، فمع احتمال عروض الترجيح في أحدهما ينتفي حكم العقل بالتخيير، و

يتبعه حكم الشرع المستكشف منه.

نعم لو احتمل حدوث مناط آخر للحكم الشرعي مقارناً لارتفاع مناط الحكم الشرعي الأوّل، أمكن استصحاب الكلّي الجامع بينهما، و لكن لا مجال لاستصحاب شخص الحكم الشرعي- المستكشف من الحكم العقلي- بمجرّد احتمال زوال المناط؛ لما عرفت من أنّه تابع للحكم العقلي، و أنّ موضوعهما و مناطهما واحد، لكن لو شكّ في بقاء الحكم الشرعي، المستكشف بالحكم العقلي الكلّي بعد انطباقه على الخارج، و احتمل انطباق عنوان آخر عليه، و عروض انطباق مناط آخر عليه لشخص آخر من الحكم الشرعي- غير الشخص الأوّل منه- المستكشف من الحكم العقلي، فهو من قبيل القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي، و تقدّم: أنّ له أقساماً يجري في بعضها الاستصحاب، دون بعض آخر منها، و ما نحن فيه ممّا لا يجري فيه استصحاب الكلّي؛ لأنّ التخيير الكلّي الجامع بين هذا الفرد من الكلّي و بين ذاك، ليس حكماً شرعيّاً، و لا موضوعاً ذا حكم شرعيّ، بل جميع موارد استصحاب الجامع بين الحكمين كذلك؛ لأنّه أمر منتزع منهما، و هو ليس حكماً شرعيّاً بنفسه، و لا موضوعاً ذا أثر شرعيّ، و تقدّم أنّه يعتبر في الاستصحاب كون المستصحَب حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً يترتّب عليه الأثر الشرعي؛ أي كبرى كلّيّة شرعيّة، و حينئذٍ فلا مجال لاستصحاب التخيير في المقام أصلًا، مضافاً إلى المعارضة المتقدّمة، مع أنّه لا معنى لعدم القول بالفصل في تلك المسألة العقليّة.

فتلخّص: أنّ مقتضى الأصل الأوّلي هو وجوب تقليد الأعلم.

حول الاستدلال ببناء العقلاء في التقليد

اشارة

ثمّ إنّه لا بدّ من تقديم أمر آخر: هو مبنى جواز رجوع الجاهل إلى العالم أو وجوبه، و العمدة فيه: هو بناء العقلاء بالفطرة على الرجوع في كلّ أمر عند الاحتياج

الاجتهاد و التقليد

(تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 618

إلى أهل الخبرة فيه، و القبول منهم، و الجري العملي على طبق رأيهم في الصناعات و غيرها في كلّ فنّ، كاستقرار بنائهم على العمل بخبر الثقة و اليد و أصالة الصحّة في فعل الغير و غير ذلك، و أدلّة عدم جواز العمل بالظنّ- مثل قوله تعالىٰ: «إِنَّ الظَّنَّ لٰا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً»* «1» و نحوه على فرض تسليم عدم اختصاصها باصول العقائد كما لا يبعد ذلك- لا تصلح للردع عن هذا البناء؛ لأنّ هذا البناء الثابت المستقرّ منهم يحتاج الردع عنه إلى بيان أوضح و أوفى من ذلك، بل لا ينقدح في ارتكازهم و أذهانهم أنّ ذلك من قبيل الظنون، بل هو علم عاديّ عندهم، و لا ينقدح أيضاً في أذهانهم أنّ ذلك ردع عن هذا البناء، كبنائهم على العمل بخبر الثقة و اليد.

الشبهة في الاستدلال ببناء العقلاء و جوابها

لكن هنا شبهة تتوقّف استقامة هذا الدليل على دفعها، و إلّا لم يتمّ ذلك، و هي أنّ الاستدلال ببناء العقلاء إنّما يتمّ لو ثبت هذا البناء منهم في عصر الأئمّة عليهم السلام بمرأىً و منظرهم، فإنّه حينئذٍ يصحّ أن يقال: إنّ عدم ردعهم عليهم السلام عن ذلك كافٍ في إمضائهم عليهم السلام له، و ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، فإنّ رجوع العامّي إلى الفقيه و المجتهد- بالاجتهاد المتعارف في هذه الأعصار- أمر مستحدَث لم يكن في زمانهم عليهم السلام بل المحدِّثون في عصرهم عليهم السلام يتلقّون الأحكام منهم عليهم السلام شفاهاً، و يروونها لغيرهم، و أين ذلك من الاجتهاد المتعارف في هذه الأعصار، المتوقّف على مُؤْنات و مشقّات كثيرة و إعمال الدقائق العلميّة و العلوم المختلفة، كالعلوم الرياضيّة و غيرها؟!

و بالجملة: الاستدلال ببناء

العقلاء فيما نحن فيه، إنّما يتمّ لو ثبت أحد أمرين

______________________________

(1)- يونس (10): 36، و النجم (53): 28.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 619

على سبيل منع الخلوّ:

أحدهما: إثبات تحقّق الاجتهاد بهذا المعنى المتعارف في هذا العصر في عصرهم عليهم السلام و رجوع الجهّال بالأحكام إليهم.

الثاني: إثبات أنّ على الأئمّة عليهم السلام الردع عن المباني العقلائيّة الحادثة في زمن الغيبة مع عدم رضا الشارع بها.

و مع عدم إثبات هذين الأمرين لم يتمّ الاستدلال.

لا يقال: إنّه ورد في بعض الروايات: إرجاعهم إلى مثل زرارة «1» و الأسدي «2» و نحوهما «3» لأخذ الأحكام، و بإلغاء الخصوصيّة يتمّ المطلوب، و هو جواز الرجوع إلى الفقهاء في هذا العصر أيضاً.

لأنّه يقال: إنّ ذلك إنّما يصحّ لو ثبت الاجتهاد بهذا المعنى المتعارف في زماننا لأمثال زرارة و الأسدي، و الظاهر خلافه، بل لم يكن شأنهم إلّا مجرّد نقل الرواية.

تحقّق الاجتهاد المتعارف في عصرنا في زمان الأئمة عليهم السلام

و لكنّ الحقّ: أن يقال بتحقّق الاجتهاد بهذا المعنى المتعارف في عصرنا في زمان الأئمّة عليهم السلام؛ و ذلك لأنّ مبنى الاجتهاد في هذا العصر هو الكتاب و السُّنّة و بعض القواعد العقليّة و العقلائيّة، و لا دخْل لكثير من المسائل الاصوليّة في الاجتهاد

______________________________

(1)- اختيار معرفة الرجال 2: 347/ 216، وسائل الشيعة 18: 104، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 19.

(2)- اختيار معرفة الرجال 2: 400/ 291، وسائل الشيعة 18: 103، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 15.

(3)- اختيار معرفة الرجال 2: 628/ 620، وسائل الشيعة 18: 105، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 24.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 620

و استنباط الأحكام، و لا ريب في أنّ الاستنباط بهذا

المعنى- أي من الكتاب و السُّنّة و بعض القواعد، كالاستصحاب و قواعد التعارض، مثل عرض المتعارضين على الكتاب و السُّنّة، و اختيار ما وافقهما و ما يخالف العامّة، و طرح ما خالف الكتاب و السُّنّة، و الترجيح بالشهرة، و نحو ذلك- كان متعارفاً و متحقّقاً في أعصار الأئمة عليهم السلام بلا ريب و إشكال؛ لأنّه من المعلوم عدم تمكّن كلّ أحد في عصرهم عليهم السلام- كالذين في البلاد البعيدة عنهم عليهم السلام- من السؤال منهم و الحضور عندهم، مع شدّة احتياجهم إلى السؤال من أحكامهم و معالم دينهم، و لم يمكن معرفتها حينئذٍ إلّا بالتوغّل في الأخبار المنقولة عنهم عليهم السلام، و ملاحظة قواعد التعارض بينها، كما وقع السؤال فيها منهم عليهم السلام و إرجاعهم مواليهم و شيعتهم إلى فقهائهم في ذلك الزمان.

نعم الفروع في هذه الأزمنة أكثر من الفروع في ذلك العصر.

و يشهد لذلك- أي تحقّق الاستنباط و الاجتهاد بهذا المعنى في أعصارهم عليهم السلام- الأخبار الكثيرة الناهية عن الفتوى بغير علم «1»، فيستفاد منها جواز الفتوى بالعلم المستفاد من الكتاب و السُّنّة، في مقابل الفتوى على وفق القياس و الاستحسانات العقليّة، لا العلم الوجداني، فيظهر منها تحقّق الفتوى عن علم في زمانهم عليهم السلام، و لا يمكن الفتوى إلّا بالاجتهاد و النظر.

و منها: الأخبار الناهية عن الحكم بغير ما أنزل اللّٰه «2»، فتدلّ على جواز الحكم بما أنزل اللّٰه، و تمييز ما أنزل اللّٰه تعالىٰ عن غيره لا يمكن إلّا بالاجتهاد و النظر، و إلّا فمجرّد نقل الحديث لا يفيد ذلك.

و منها:

ما رواه ابن إدريس في «آخر السرائر»، نقلًا عن كتاب هشام بن سالم،

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 18: 9، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،

الباب 4.

(2)- الكافي 7: 407 انظر باب من حكم بغير ما أنزل اللّٰه، وسائل الشيعة 18: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 5.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 621

عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: (إنّما علينا أن نلقي إليكم الاصول، و عليكم أن تفرّعوا)

«1». و منها:

المنقول عن كتاب البزنطي، عن الرضا عليه السلام قال: (علينا إلقاء الاصول، و عليكم التفريع)

«2». فإنّ الاجتهاد ليس إلّا عبارة عن ردّ الفروع إلى الاصول و القواعد المتلقّاة منهم عليهم السلام مثل قوله عليه السلام:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

«3»، و

(على اليد ما أخذت حتّىٰ تؤدّيه)

«4» و نحو ذلك، و تطبيق تلك الاصول على مصاديقها و ما يشمله إطلاقاتها.

و بالجملة: يظهر من هذين الخبرين تحقّق الاجتهاد بهذا المعنى المتعارف في هذه الأعصار في أعصارهم عليهم السلام.

و أمّا ما ورد في بعض الأخبار من النهي عن الإفتاء و الاجتهاد «5»، فهي ناظرة إلى فتاوى العامّة و فقهائهم بالقياس و الاستحسانات، كما كان ذلك من دأب أبي حنيفة و غيره، لا الفتوى المستنبطة من الكتاب و السُّنّة، كما هو ظاهر لمن له أدنى تأمّل و تدبّر.

و منها: مقبولة عمر بن حنظلة «6»، فإنّها و إن وردت في خصوص القضاء، لكن

______________________________

(1)- مستطرفات السرائر: 57/ 20، وسائل الشيعة 18: 40، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6، الحديث 51.

(2)- مستطرفات السرائر: 58/ 21، وسائل الشيعة 18: 41، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6، الحديث 52.

(3)- تهذيب الأحكام 1: 8/ 11، وسائل الشيعة 1: 174، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.

(4)- مسند أحمد بن حنبل 5: 8، سنن ابن ماجة 2: 802/ 2400، سنن أبي داود 2:

318/ 3561.

(5)- وسائل الشيعة 18: 20، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6.

(6)- الكافي 1: 54/ 10، وسائل الشيعة 18: 75، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 1.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 622

القدر المسلَّم شمولها للقضاء في الشبهات الحكميّة، فإنّ اختلاف الحَكَمين في الحديث- كما فرض فيها- لا يتحقّق إلّا بالاجتهاد و النظر في معنى الحديث، سواء اريد اختلافهما في معنى حديث واحد، أو في حديثين؛ بأن استند أحدهما في حكمه على حديث، و الآخر على حديث آخر؛ ضرورة عدم نشوء اختلافهما عن الشهوات النفسانيّة و الأميال الشخصيّة و بلا ملاك و مناط.

و بالجملة: يظهر من المقبولة الأمران المتقدّمان؛ و هما وجود الناظر في الحلال و الحرام العارف بالأحكام في عصرهم، و حكمهم عليهم بالرجوع إليه في المنازعات.

و منها: مشهورة أبي خديجة «1» بالتقريب المتقدّم في المقبولة.

و منها:

ما رواه الصدوق قدس سره عن أبيه، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي حيّون مولى الرضا، عن الرضا عليه السلام قال: (من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فَقَدْ هُدِيَ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

ثمّ قال: (إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن، و متشابهاً كمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، و لا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا)

«2». و من الواضح أنّ ردّ المتشابه من الكتاب و السُّنّة إلى المحكم منها، لا يمكن إلّا بالاجتهاد.

و منها:

ما في معاني الأخبار بسنده عن داود بن فرقد، قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: (أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا؛ إنّ الكلمة لتنصرف

______________________________

(1)- الفقيه 3: 2/ 1، وسائل الشيعة 18: 4، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.

(2)- عيون أخبار الرضا 2: 226/ 39،

وسائل الشيعة 18: 82، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 22.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 623

علىٰ وجوه، فلو شاء إنسان لَصرف كلامه كيف شاء و لا يكذب)

«1»، فإنّ فهم المراد منها لا يمكن إلّا بالاجتهاد و الانس بمذاقهم عليهم السلام، الحاصل بالتوغّل و التفكّر في معاني الأخبار و ملاحظة سائر ما له دَخْل في معرفة الأحكام.

و منها:

رواية علي بن أسباط قال: قلت للرضا عليه السلام: يحدث الأمر لا أجد بدّاً من معرفته، و ليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك.

قال: فقال: (إئتِ فقيه البلد، فاستفته من أمرك، فإذا أفتاك بشي ء فخذ بخلافه، فإنّ الحقّ فيه)

«2». و يستفاد منها الأمران المتقدّمان؛ وجود الفقيه و الفتوى في ذلك الزمان، و استقرار بنائهم على الرجوع إليه و أخذ الأحكام منه.

و منها:

رواية «نهج البلاغة» فيما كتب إلى قثم بن عباس: (و اجلس لهم العصرين، فأفتِ للمستفتي، و علّم الجاهل، و ذاكر العالم)

«3»، فإنّ أمره عليه السلام له بالإفتاء، يكشف منه أهليّته له، و تمكّنه من معرفة الأحكام من الأدلّة، لا مجرّد نقل الحديث، فيعلم منه تحقّق الاجتهاد المصطلح في ذلك العصر أيضاً.

و منها:

قول أبي جعفر عليه السلام لأبان بن تغلب: (اجلس في المسجد و أفتِ الناس، فإنّي احبّ أن يُفتي من شيعتي مثلك)

«4».

______________________________

(1)- معاني الأخبار: 1/ 1، وسائل الشيعة 18: 84، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 27.

(2)- عيون أخبار الرضا 1: 214/ 10، تهذيب الأحكام 6: 294/ 27، وسائل الشيعة 18: 82، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 23.

(3)- نهج البلاغة: 642، مستدرك الوسائل 17: 315، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 15.

(4)- رجال

النجاشي: 10/ 7، مستدرك الوسائل 17: 315، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 14.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 624

و منها: الرواية الطويلة ليونس «1»، المتضمّنة لبيان طريق الاجتهاد في أبواب المستحاضة.

و منها: الأمر بالمسح على المرارة في رواية عبد الأعلى، و أنّه يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّٰه «2».

و كذلك استدلاله عليه السلام في بعض الأخبار لكفاية المسح على بعض الرأس «3»؛ لمكان الباء في آية الوضوء «4»، و غير ذلك.

و أمّا إرجاعهم مواليهم و شيعتهم إلى الفقهاء في ذلك الزمان، فهو ممّا لا ريب فيه أيضاً، مثل إرجاعه عليه السلام إيّاهم إلىٰ زكريّا بن آدم في كلّ ما يحتاج إليه «5»، و قوله عليه السلام:

(عليك بالأسدي)

«6» أو

(بهذا الجالس)

«7» مشيراً إلى زرارة، و تدلّ عليه المقبولة و مشهورة أبي خديجة و غيرها من الروايات المتقدّمة،

و ما دلّ على أنّ العلماء امناء

______________________________

(1)- الكافي 3: 83/ 1، وسائل الشيعة 2: 537، كتاب الطهارة، أبواب الحيض، الباب 3، الحديث 4.

(2)- الكافي 3: 33/ 4، تهذيب الأحكام 1: 363/ 1097، وسائل الشيعة 1: 327، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 39، الحديث 5.

(3)- الفقيه 1: 56/ 1، تهذيب الأحكام 1: 61/ 168، وسائل الشيعة 1: 290، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 23، الحديث 1.

(4)- المائدة (5): 6.

(5)- اختيار معرفة الرجال 2: 858/ 1112، وسائل الشيعة 18: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 27.

(6)- اختيار معرفة الرجال 1: 400/ 291، وسائل الشيعة 18: 103، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 15.

(7)- اختيار معرفة الرجال 1: 347/ 216، وسائل الشيعة 18: 104، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث

19.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 625

الرُّسل، و خلفاء اللّٰه في أرضه، و أنّهم لم يدخلوا في الدنيا، قال: و ما الدخول فيها؟

قال: (الدخول في أمر السلطان)

«1». و هذا منه عليه السلام إنّما هو لإرجاع الناس إليهم و أخذ الفتوى منهم.

فتلخّص: ثبوت الأمرين المتقدّمين؛ أي تحقّق الاجتهاد بالمعنى المصطلح في زمانهم عليهم السلام، و إرجاعهم الناس- أي مواليهم- إلى المجتهدين في عصرهم.

شبهة اخرىٰ في الاستدلال على بناء العقلاء

هذا، و لكن هنا شبهة اخرى: هي أنّه لا ريب في أنّ حجّيّة فتوى المجتهد ليست من باب السببيّة؛ بإيجاد نظره مصلحة في مؤدّى فتواه جابرة لمصلحة الواقع، بل هي من باب الطريقيّة للوصول إلى الأحكام الواقعيّة، كما هو المرتكز في أذهان العرف و العقلاء في جميع موارد رجوع الجاهل إلى العالم، و حينئذٍ فهذا الاختلاف الشديد بين الفقهاء في هذه الأعصار في الفتاوى و الآراء؛ بحيث يُخطّئ كلٌّ الآخر في نظره، و لم يكن في عصر الأئمّة عليهم السلام بين الفقهاء، مثل زرارة و محمّد بن مسلم و أمثالهما؛ لتمكّنهم من استكشاف الحال بالرجوع إليهم عليهم السلام، فقليلًا ما يصاب الواقع في عصرنا، بخلاف عصرهم عليهم السلام، فإمضاؤهم عليهم السلام لبناء العقلاء في رجوعهم إلى الفقهاء في عصرهم، إنّما هو لمكان إصابة أنظارهم للواقع دائماً أو غالباً، لا يفيد و لا يستلزم إمضاءهم للرجوع إلى الفقهاء في هذه الأعصار؛ لندرة إصابة أنظارهم للواقع، فمجرّد عدم الردع عن بنائهم في الرجوع إلى الفقهاء في عصرهم، لا يكفي في الإمضاء بالنسبة إلى هذه الأعصار، إلّا أن نلتزم بأنّ حجّيّة الفتاوى من باب السببيّة، فإنّه عليه لا فرق بين

______________________________

(1)- راجع دعائم الإسلام 1: 81، باب ذكر الرغائب في العلم و الحض عليه

و فضائل طالبيه، مستدرك الوسائل 17: 312، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 5.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 626

وجود الاختلاف الشديد بين آرائهم و عدمه، و لكنّه خلاف التحقيق.

و هذه الشبهة لا ترتفع إلّا بإثبات الأمر الثاني المتقدّم، و هو إثبات رضا الشارع و إمضائه لرجوع العوامّ إلى المجتهدين في زمان الغيبة في تلقّي الأحكام منهم، مع شدّة احتياجهم إليه، و علمهم عليهم السلام بابتلاء الناس بزمان الغيبة، و أنّه بعد الغيبة و ختم الولاية الظاهريّة يتحقّق الاختلاف الشديد بينهم، طبعاً يقطع بذلك من تأمّل و تدبّر في ذلك؛ من دون احتياج إلى العلم بالغيب، و حينئذٍ فمع وضوح أداء الأمر إلى ذلك، و علمهم عليهم السلام بذلك، و تحقّق بناء العقلاء في جميع الأعصار على رجوع الجاهل إلى العالم، فعدم ردعهم عنه كافٍ في الإمضاء، و كاشف عن أنّ رجوع العوامّ إلى المجتهدين في ذلك الزمان مرضيّ لديهم، و إلّا وجب عليهم الردع.

و أمّا ما ذكره شيخنا الحائري قدس سره في دفع الشبهة بأنّ للأحكام مراتب: الواقعيّة الأوّليّة، و الواقعيّة الثانويّة، و الأحكام الظاهريّة، و المطلوب في مقام الاحتجاج هي الأحكام الظاهريّة؛ لأنّ المقصود هو التخلّص من العقاب، و الفقهاء كلّهم مصيبون فيها و إن كثر الاختلاف بينهم جدّاً «1».

ففيه: أنّه إنّما يصحّ بالنسبة إلى وظيفة المجتهد نفسه، لا بالنسبة إلى مقلّده العامّي، فإنّ المجتهد معذور لو خالف نظره الواقع، و أدّى إلى خلافه؛ لو استفرغ وسعه و بذل جهده في مقام الاستنباط، و أمّا العامّي فاللّازم عليه: إمّا العمل بالواقع، و إمّا بما هو عذر، و مجرّد معذوريّة الفقيه لنفسه لا يستلزم معذوريّة الجاهل المقلِّد له.

و كذلك ما

أفاده في دفعها: من أنّ خطأ المجتهدين في الآراء و الأنظار و إن كان كثيراً في نفسه، لكنّه بالنسبة إلى موارد الإصابة في غاية القلّة؛ بحيث يكون احتمال الخلاف و الخطأ عند العقلاء في كلّ مورد مُلغىً «2».

______________________________

(1)- البيع، الشيخ الأراكي 2: 411- 412.

(2)- نفس المصدر.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 627

فإنّه أيضاً ممنوع؛ لكثرة الاختلاف في آرائهم و أنظارهم في هذه الأعصار غايتها، حتّى أنّ لفقيه واحد أقوالًا في كتبه المختلفة، كالعلّامة قدس سره في كتبه «1»، و مع الالتفات إلى هذه الاختلافات فاحتمال الخلاف ليس ملغىً عند العقلاء؛ ليتمسّك في المقام ببناء العقلاء، و لا ريب في أنّ بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم، إنّما هو لأجل أنّ نظر أهل الخبرة عندهم نادر التخلّف عن الواقع؛ بحيث لا ينقدح احتماله في أذهانهم، كما في مثل بنائهم على اعتبار اليد و أصالة الصحّة في فعل الغير و نحوهما، لا لأجل انسداد باب العلم و احتياجهم إلى معرفة الأحكام، مع بطلان وجوب الاحتياط؛ لعدم تماميّة مقدّمات الانسداد عند العقلاء؛ لإمكان الاحتياط و عدم لزوم العسر و الحرج منه، و على فرض استلزام الاحتياط التامّ لهما، فلا ريب في إمكان التجزّي في الاحتياط؛ لعدم استلزامه لهما.

و ليس بناؤهم هذا لأجل تواطؤ رؤساء القوم و توافقهم على جعل ذلك قانوناً كلّيّاً؛ لمكان احتياجهم إليه و اختلال نظامهم و معاشهم بدونه، و أنّه بقي ذلك معمولًا به حتّى صار ارتكازيّاً في هذه الأعصار و إن لم يكن كذلك في الأوّل، كما تقدّم احتمال ذلك في مثل أصالة الصحّة و نحوها، فإنّ هذا الاحتمال في غاية البعد، كالممتنع عادة.

فتلخّص ممّا ذكرناه: حجّيّة فتوى الفقيه الجامع للشرائط،

و أنّها طريق إلى الواقع، و بناء العقلاء على ذلك، و إن كان ناشئاً عن مقدّمة خطابيّة، و هي زعمهم: أنّ هذا المورد مثل سائر موارد رجوع الجاهل إلى العالم؛ غفلة عن كثرة الاختلافات بين فتاواهم، بل يمكن البناء على كاشفيّة فتاويهم عن الواقع شرعاً أيضاً؛ لأنّها كذلك عند

______________________________

(1)- كما في مسألة مقدار الكرّ بالمساحة حيث ذهب إلى القول بثلاثة أشبار و نصف في مثلها طولًا و عمقاً في قواعد الأحكام 1: 4، و تحرير الأحكام 1: 4، و التبصرة: 3، و منتهى المطلب 1: 7، و اختار في المختلف القول بثلاثة أشبار في مثلها طولًا و عمقاً في مختلف الشيعة: 3- 4، و مال إليه في النهاية 1: 232- 233.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 628

العقلاء، و الشارع أمضى بناءهم كما هي عندهم، فهي إمّا أمارة على الواقع أو كالأمارة، و تقدّم أنّ بناءهم إنّما هو على الرجوع إلى الفاضل مع الإمكان، و عدم الرجوع إلى المفضول؛ مع العلم باختلافهما في الرأي و الفتوى تفصيلًا أو إجمالًا، أو مع احتمال ذلك إذا كان له منشأ عقلائيّ.

كيفيّة السيرة العقلائيّة في حجيّة قول المفضول

اشارة

لكن في حجّيّة قول المفضول ذاتاً مع وجود الفاضل- فتقديم الأفضل حينئذٍ عليه من قبيل ترجيح إحدى الحجّتين على الاخرى، نظير تقديم خبر الأوثق على غير الأوثق؛ مع حجّيّة خبر الموثّق أيضاً ذاتاً لا فعلًا- أو عدمها أصلًا لا فعلًا و لا ذاتاً- و حينئذٍ فتقديم الفاضل على المفضول من قبيل تقديم الحجّة على اللّاحجّة- وجهان:

أوجههما الأوّل؛ إذ لا ريب في وجوب الرجوع إلى المفضول مع عدم التمكّن من الرجوع إلى الفاضل، و استقرّ عليه بناء العقلاء في مراجعاتهم إلى أهل الخبرة من الأطبّاء و

غيرهم، و هو دليل قطعيّ على ثبوت الأماريّة لفتوى المفضول ذاتاً و الطريقيّة الذاتيّة لها، بل لا يعقل دَخْل وجود الفاضل و عدمه في ثبوت الحجّيّة الذاتيّة لفتوى المفضول و عدمها؛ و إن أمكن دَخْله في الحجّيّة الفعليّة لها.

و بعبارة اخرى: لا ريب في إلغاء احتمال الخلاف عند العقلاء بالنسبة إلى كلّ واحد من فتوى الأفضل و الفاضل، لكن يرجّح عندهم الأفضل مع الإمكان.

هل ترجيح قول الأفضل لزوميّ أم لا؟

نعم، يبقى في المقام أمر؛ و هو أنّه هل تقدّم فتوى الأفضل بنحو الإلزام؛ بأن يُقال:

إنّ نظر الأفضل و فتواه كاشف عن خطأ الآخر في فتواه و على عدم أماريّتها، دون

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 629

العكس، أو أنّه بنحو الاستحسان لا الحتم؟

الظاهر هو الثاني، كما يظهر ذلك من التصفّح و التأمّل في مباني العقلاء في موارد رجوعهم إلى أرباب الصناعات، فإنّ الرجوع إلى الأعلم- مع الإمكان و عدم العسر و الحرج- أمر مستحسن عندهم لا حتميّ، و أمّا مع تعذّر الرجوع إلى الأعلم و إن لم يكن من الأعذار العقلائيّة، فلا ريب في رجوعهم إلى غير الأفضل، فالرجوع إلى الأفضل من باب الاحتياط و مستحسن عندهم، لا أنّه متعيّن و متحتّم، لكنّه إنّما هو فيما إذا لم يحتمل مخالفتهما في الرأي احتمالًا معتدّاً به؛ لإلغاء احتمال الخلاف في فتوى كلّ واحد من الأعلم و غير الأعلم حينئذٍ، و أمّا مع الاحتمال العقلائي في مخالفة فتواه لفتوى الأعلم أو العلم الإجمالي بذلك، فالرجوع إلى الأعلم متعيّن عندهم؛ لأنّه لا يجتمع إلغاءُ احتمال الخلاف بالفعل في فتواهما مع العلم الإجمالي بالمخالفة بين قوليهما، بل و مع الاحتمال أيضاً إذا كان عقلائيّاً، ففي الموارد التي يتراءى منها من رجوعهم إلى

غير الأعلم؛ مع التمكّن من الرجوع إلى الأعلم، لا بدّ أن يكون لأجل عدم حصول الاحتمال العقلائي بمخالفتهما في الفتوى، فضلًا عن العلم الإجمالي بها.

نعم العلم الإجمالي بذلك في فتاوى غير محصورة، لا يمنع من الرجوع إلى غير الأعلم.

فالحاصل: أنّ مقتضى القواعد هو تعيّن الرجوع إلى الأعلم مع العلم بالمخالفة بين فتواهما و لو إجمالًا، بل و مع احتمالها إذا كان له منشأ عقلائي. هذا كلّه بحسب الأصل الأوّلي.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 630

أدلّة جواز الرجوع إلى المفضول
اشارة

و لكن استدلّ لجواز تقليد غير الأعلم- و إن علم مخالفته للأعلم في الفتوى- بالآيات و الروايات «1»:

الآيات التي استدلّ بها

أمّا الآيات: فمنها آية السؤال المذكورة في سورتي النحل «2» و الأنبياء «3»، و هي قوله تعالىٰ: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ».*

و تقريب الاستدلال: أنّه من الواضح اختلاف مراتب الفقهاء في العلم، و كذلك اختلافهم في الفتاوى و عدم تساوي الاثنين منهم في العلم و اتّفاقهما في الفتوى في غاية الندرة، و من المعلوم أنّه ليس المراد السؤال من جميع أهل الذكر، أو الواحد المعيّن منهم، فلا بدّ أن يراد السؤال من واحد منهم، و الآية بحسب إطلاقها شاملة لما إذا علم بمخالفة الفاضل للمفضول في الفتوى و عدمه، و لا يصحّ تنزيل الآية على خصوص صورة العلم بتساويهما في المرتبة و الفضيلة و اتّفاقهما في الرأي؛ لأنّه حمل على المورد النادر، و حينئذٍ فمقتضاها جواز تقليد المفضول أيضاً.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال، و لكن يرد عليه بوجوه:

الأوّل: أنّ ظاهر الآية- الشاهد عليه سياقها- أنّ المراد من أهل الذكر علماء

______________________________

(1)- انظر ضوابط الاصول: 413- 414، و مطارح الأنظار: 274.

(2)- النحل (16): 43.

(3)- الأنبياء (21): 7.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 631

اليهود؛ لأنّ قبلها قوله تعالىٰ: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ إِلّٰا رِجٰالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ» «1» الآية، فهي ردّ على من زعم أنّ الرسول لا بدّ أن يكون مَلَكاً، فأمر اللّٰه تعالىٰ عوام اليهود بالسؤال من علمائهم؛ لعلمهم بأنّ الرسل السابقين كانوا رجالًا لا ملائكة.

الثاني: مقتضى الأخبار الواردة في تفسيرها، أنّ المراد من أهل الذكر هم الأئمّة عليهم السلام خاصّة لا غير، مثل قوله عليه السلام:

(نحن أهل الذكر)

«2»، و لسنا

فعلًا بصدد تفسير الآية.

الثالث: أنّ الآية مرتبطة باصول العقائد المطلوب فيها العلم و الاعتقاد، و لذلك قال تعالىٰ: «إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ»*؛ أي فاسألوا منهم أوصاف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم؛ كي تعلموا أنّه النبيّ النذير المبشَّر به من اللّٰه تعالىٰ في التوراة و الإنجيل، و هذا غير ما نحن بصدده من جواز تقليد المفضول؛ و الرجوع إليه في المسائل الفرعيّة و إن لم يحصل العلم مع وجود الفاضل.

الرابع: على فرض الإغماض عن جميع ما ذكر، لكن لا نسلّم إطلاق الآية؛ بحيث تشمل صورة العلم بمخالفة المفضول للفاضل في الرأي و الفتوىٰ.

و منها: آية النَّفْر، و هي قوله تعالىٰ: «فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» «3».

و الاستدلال بها لجواز تقليد المفضول- حتّى مع العلم بمخالفته للفاضل في الفتوى- يتوقّف على امور:

______________________________

(1)- الأنبياء (21): 7.

(2)- الكافي 1: 163 انظر باب أنّ أهل الذكر الذين أمر اللّٰه الخلق بسؤالهم هم الأئمة عليهم السلام، تفسير البرهان 2: 369 ذيل الآية 43 من سورة النحل، وسائل الشيعة 18: 41، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 7.

(3)- التوبة (9): 122.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 632

الأوّل: أن يجب النَّفْر على طائفة من المسلمين.

الثاني: كون التفقّه غاية للنَّفْر.

الثالث: كون المنذَر به من جنس ما يتفقّه فيه.

الرابع: كون كلّ واحد من النافرين منذِراً.

الخامس: أنّ المنذَر- بالفتح- كلّ واحد من القوم، لا مجموعهم.

السادس: أن يراد منها التفقّه في الفروع أو الأعمّ منها و من الاصول.

السابع: إرادة التحذير العملي من الآية.

الثامن: ثبوت الإطلاق للآية؛ بحيث تشمل صورتي حصول العلم بما انذر به و عدمه؛ سواء خالف

قولُ المنذر و فتواه قولَ المنذِر الآخر و فتواه، أم لا.

و كثير من هذه الامور محلّ منع؛ و ذلك لأنّ استفادة وجوب النَّفْر من كلمة «لو لا» التحضيضيّة مشكلة، بل مقتضى سياق الآية أنّها في مقام النهي عن نَفْر الجميع؛ لقوله تعالىٰ قبلها: «وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً»، فهو نهي عن نَفْر جميعهم باتّفاق المفسِّرين «1»، كما يُشعر به عدم نقل الطبرسي قدس سره في «المجمع» الخلاف في ذلك «2»، مع أنّ دأبه في تفسيره ذلك.

و بعبارة اخرى: بناءً على أنّ ما قبل الآية نهيٌ عن نَفْر الجميع- كما هو الظاهر- فقوله تعالىٰ: «فَلَوْ لٰا نَفَرَ» بعده في مقام توهُّم الحظر، فلا يستفاد منه الوجوب، كما قُرّر في محلّه. هذا بحسب تفسير المفسّرين.

و لكن الذي يبدو للنظر: أنّ ما قبل الآية ليس نهياً عن النَّفْر العمومي، بل هو إخبار عن أنّ النهي عن النَّفْر العمومي إنّما هو لإيجابه اختلال النظام، و حينئذٍ فقوله تعالىٰ: «فَلَوْ لٰا نَفَرَ» حثّ على نَفْر البعض.

______________________________

(1)- تفسير البيضاوي 1: 425، تفسير الميزان 9: 404.

(2)- مجمع البيان 5: 126.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 633

ثمّ لا نُسلّم كون المنذر به من جنس ما يُتفقّه فيه؛ لأنّه خلاف ظاهر الآية؛ لأنّ ظاهرها أنّ غاية النَّفْر أمران:

أحدهما: التفقّه في الدين أوّلًا.

ثانيهما: الإنذار بعده.

و لا يلزم حينئذٍ أن يكون المنذَر به من جنس المتفقَّه فيه، و أيضاً لا دليل على أنّ المراد من المنذَر به هو الفتوى، بل هو خلاف ظاهر الآية، فالظاهر أنّ المراد تخويف الناس؛ بذكر الآيات و الأخبار الواردة في الوعيد على مخالفة اللّٰه و الرسول، كما هو دأب الواعظين.

لا يقال: إنّه لا يناسبه حينئذٍ قوله: «لِيَتَفَقَّهُوا»؛ لإمكان

الوعظ و التخويف من غير المتفقّه في مسائل الحلال و الحرام.

لأنّه يقال: وجه المناسبة: هو أنّه لا يمكن الإنذار إلّا من الفقيه البصير بالحلال و الحرام و اصول العقائد و مباني الإسلام، و لا يختصّ بالفروع، بل يشمل اصول الدين، إلّا أنّه فيه مقيِّد لصورة حصول العلم، و إلّا فربّما يؤدّي إنذاره إلى ما هو خلاف المطلوب.

مع أنّه لا نسلّم أيضاً أنّ المراد من التحذير وجوب التحذير العملي، بل ظاهر الآية أنّ المراد: لعلّه يوجد في أنفس القوم ما يوجب التذكّر و الخوف من العقاب و زوال الغفلة، مثل قوله تعالىٰ: «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىٰ» «1».

و على فرض الإغماض عن جميع ما ذكر لا نسلّم إطلاق الآية؛ بحيث يشمل صورة اختلاف المفضول للفاضل في الفتوى؛ لأنّها ليست في مقام بيان ذلك.

كما أنّه لا نسلّم إطلاقها الشامل لصورتي حصول العلم من إنذار المنذر و عدمه،

______________________________

(1)- طه (20): 44.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 634

فالآية أجنبيّة عمّا نحن بصدده.

و أوضح منها في عدم الدلالة على المطلوب آية الكتمان «1»، و غيرها ممّا استدلّ بها في المقام.

الروايات التي استدلّ بها لجواز تقليد غير الأعلم

و أمّا الروايات: فاستدلّ بعدّة منها لجواز تقليد غير الأعلم.

منها:

رواية الاحتجاج عن تفسير الإمام في قوله تعالىٰ: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتٰابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هٰذٰا مِنْ عِنْدِ» «2»، قال عليه السلام: (هذه لقوم من اليهود ...) إلى أن قال: (فإنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصريح و أكل الحرام و تغيير الأحكام، و اضطرّوا بقلوبهم إلى أنّ من فعل ذلك فهو فاسق ...)

إلى أن قال: (فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوامّ أن يقلّدوه، و ذلك لا يكون

إلّا بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم، فإنّ من ركب من القبائح و الفواحش مراكب علماء العامّة، فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً)

«3» الحديث.

بدعوى شمول إطلاقها لتقليد من ثبت له هذه الأوصاف، و اقتضائها جوازه و لو مع مخالفة رأيه لرأي الأعلم منه، خصوصاً مع كثرة مراتب الفقهاء في الفضل و العلم و نُدرة تساوي الاثنين منهم في الفضل و الفتوىٰ.

هذا، و لكن يرد على الاستدلال بها في المقام- مضافاً إلى ضعف سندها؛ لعدم

______________________________

(1)- البقرة (2): 159.

(2)- البقرة (2): 79.

(3)- الاحتجاج: 457، تفسير الإمام العسكري: 120، وسائل الشيعة 18: 94، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 10، الحديث 20.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 635

ثبوت صحّة نسبة التفسير المذكور إلى الإمام عليه السلام، بل كان بعض أساتيذنا يقول: إنّه مشتمل على امور و مطالب يُعلم منها أنّه ليس من الإمام عليه السلام- أنّه قال في «التبيان» بعد قوله تعالىٰ: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتٰابَ بِأَيْدِيهِمْ» «1» الآية: إنّه يستفاد من هذه الرواية: أنّ علماء اليهود و رؤساءهم كانوا ظانّين بنبوّة نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم و خلافة الإمام عليه السلام، و أنّ عوامّهم يقلّدونهم، و أنّ ذمّهم لتقليدهم علماءهم ليس لأجل أنّه تقليد في اصول العقائد، و هو غير جائز، بل لأجل أنّهم فسّاق، مع أنّ عدم جواز التقليد في اصول العقائد، من الضروريّات و البديهيّات لو لم يحصل العلم و الاعتقاد، كما يدلّ عليه قوله تعالىٰ: «إِنْ هُمْ إِلّٰا يَظُنُّونَ» «2»، و لا يصحّ تقييد الرواية بغير اصول الدين؛ لأنّه موردها، فلا يجوز إخراجها عنها، مضافاً إلى منع الإطلاق في الرواية؛ و شمولها للرجوع إلى المفضول مع مخالفته للفاضل في الرأي

و الاجتهاد، بل ظاهرها أنّها في مقام بيان مطلب آخر، هو بيان جهة الاشتراك بين عوامّنا و عوامّهم وجهة الافتراق بينهما، فلا دلالة لها على المطلوب.

و منها: ما استدلّ بها تارة لتعيّن تقليد الأعلم، و اخرى لجواز تقليد غير الأعلم، و هي مقبولة عمر بن حنظلة، و فيها:

(ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا، فلم يقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم اللّٰه، و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ على اللّٰه)

«3» الحديث.

تقريب الاستدلال بها على جواز الرجوع إلى المفضول و إن علم مخالفته للفاضل في الفتوى: أنّها و إن كانت في مقام أمر القضاء و صفات القاضي و من يجوز

______________________________

(1)- البقرة (2): 79.

(2)- البقرة (2): 78.

(3)- الكافي 1: 54/ 10، تهذيب الأحكام 6: 301/ 845.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 636

التحاكم إليه، لكنّها ربّما تكون في الشبهات الحكميّة التي تشخيصها منوط بنظر الحاكم، فتدلّ الرواية على حجّيّة رأي من له الصفات المذكورة في الرواية في حقوق الناس، فيعلم أنّه كذلك في حقوق اللّٰه بالأولويّة، أو بإلغاء الخصوصيّة العرفيّة، أو بتنقيح المناط القطعي.

و هي تدلّ على اعتبار تشخيص العرف و العقلاء أنّه قد حكم بحكمهم؛ لقوله عليه السلام:

(بحكمنا)

، فلا بدّ من إلغاء احتمال الخلاف و الخطأ في رأيه و نظره و فتواه عندهم، بعد إلغاء احتمال تعمّد الكذب على اللّٰه تعالىٰ؛ لفرض عدالته.

مضافاً إلى أنّ الرواية متعرِّضة لصورة اختلاف الحَكَمين في رأيهما و نظرهما؛ لقوله: «و كلاهما اختلفا في حديثكم»، فيعلم منه شمول صدرها لصورة اختلافهما في الفتوى، لكنّها تختصّ بباب الحكومة

و شمولها لغيرها يحتاج إلى إلغاء الخصوصيّة العرفيّة هذا.

و لكن لا يخفىٰ ما في هذا الاستدلال؛ لأنّ إلغاء الخصوصيّة إنّما هو فيما لو فهم العرف و العقلاء عدم دَخْل القيد عند الإطلاق، مثل «رجل شكّ في الأذان و قد دخل في الإقامة»، فإنّه لا يحتمل في المتفاهم العرفي دَخْل الرجوليّة بخصوصها في هذا الحكم، فالمرأة كذلك عندهم، و أمّا لو احتمل عرفاً دَخْل خصوصيّة للقيد في الحكم- كما فيما نحن فيه- فليست الخصوصيّة مُلغاة عرفاً؛ للفرق بين باب القضاء و بين باب الفتوى، فإنّه لا مجال للاحتياط و الصلح في الأوّل غالباً، بخلاف مقام الفتوى؛ لاحتمال مطلوبيّة الاحتياط أو التجزئة فيه، و حينئذٍ فيمكن نفوذ حكم غير الأعلم في مقام القضاء مع عدم حجّيّة فتواه في غيره. هذا أولًا.

و ثانياً: قضيّة تنقيح المناط إنّما تصحّ لو علم المناط قطعاً في حجّيّة فتواه في الحكومة، لا فيما لم يعلم كما في المقام؛ لعدم معلوميّة مناط حجّيّة فتواه في الحكومة؛ حتّى يتمشّى فيه قضيّة تنقيح المناط.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، تهران - ايران، اول، 1418 ه ق

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)؛ ج 4، ص: 637

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 637

و أمّا دلالة الرواية على إلغاء العرف احتمال الخلاف في فتواه، فهو إنّما يسلّم في الحكومة فقط، لا مطلقاً؛ حتّى في سائر فتاواه في غير الحكومة.

و أمّا تعرّض الرواية لصورة اختلاف الحَكَمين في رأيهما، فهو على خلاف المطلوب أدلّ؛ حيث حكم عليه السلام بالرجوع إلى أفقههما و الأخذ بقوله، فيدلّ على عدم اعتبار رأي غير الأفقه حتّى في

باب الحكومة، و كذلك الأصدق و غيره، فتدلّ على عدم جواز تقليد غير الأفقه و الأصدق، و هكذا الكلام في مشهورة أبي خديجة استدلالًا و ردّاً.

و منها:

التوقيع لإسحاق بن يعقوب قال: سألت محمّد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً، قد سألتُ فيه عن مسائل اشكلت عليّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عليه السلام: (أمّا ما سألت عنه أرشدك اللّٰه و ثبّتك ...)- إلى أن قال-: (و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، و أنا حجّة اللّٰه عليهم)

«1». تقريب الاستدلال: أنّ المراد بالحوادث الواقعة: إمّا خصوص الشبهات الحكميّة التي لا بدّ من الرجوع فيها إلى أحكام الإسلام، أو الأعمّ منها و من الشبهات الموضوعيّة، و على أيّ تقدير تشمل الشبهات الحكميّة، و من المعلوم أنّه ليس مراده عليه السلام إرجاعهم إلى الرواة لمجرّد تلقّي الحديث و أخذه؛ لعدم حلّ المشكل به، و لا سبيل إلى إنكار إرادة الرجوع إليهم في حلّ الإشكال و رفع الشبهة؛ لأنّه المناسب لقوله و تعليله عليه السلام:

(إنّهم حجّتي عليكم، و أنا حجّة اللّٰه عليهم)

، الظاهر في أنّ المراد أنّ أعمالهم و أفعالهم و أنظارهم كأفعاله و أعماله و أنظاره عليه السلام.

مضافاً إلى أنّ قوله عليه السلام:

(و أنا حجّة اللّٰه عليهم)

مشعر بأنّهم بمنزلته، فكما

______________________________

(1)- إكمال الدين: 483/ 4، الغيبة: 290/ 247، وسائل الشيعة 18: 101، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 638

أنّه عليه السلام حجّة اللّٰه في جميع شؤون الإسلام فكذلك هؤلاء، فلا بدّ من الرجوع إليهم في جميع شؤون الإسلام التي منها آراءهم و فتاواهم.

هذا، لكن فيها إشكالان لا طريق إلى حلّهما:

أحدهما: أنّها

ضعيفة السند بإسحاق بن يعقوب، فإنّه لا أثر له في الأخبار إلّا نقل هذه الرواية و التوقيع، و مجرّد نقل المشايخ العظام لتوقيعه لا يفيد في توثيقه و اعتباره؛ لأنّهم كثيراً ما ينقلون ما لا يعتمدون عليه في مقام الفتوى من الأخبار.

و ثانيهما: أنّه لم يذكر فيها السؤال أنّه عن أيّ شي ء هو؟ فمن المحتمل أنّه ممّا يصلح للقرينة على أنّ الجواب في خصوص باب الحكومة و القضاء، و هذا الاحتمال العقلائي لا دافع له، و معه لم يستقم الاستدلال بها على المطلوب.

مضافاً إلى منع دلالتها على ثبوت جميع ما للإمام عليه السلام من شؤون الإسلام للفقيه المفضول أيضاً، و على فرض تسليمه نمنع شمولها لصورة مخالفته للفاضل في الرأي و الفتوىٰ، مع أنّ الرجوع إلى المفضول حينئذٍ خلاف طريقة العقلاء، و لا يكفي هذا النحو من البيان للردع عن هذه الطريقة العقلائيّة، بل يحتاج إلى بيان أوفىٰ و أزيد من ذلك.

و أيضاً من المحتمل أنّ المذكور في السؤال، ما يصلح قرينة على أنّ المرجوع إليه شخص خاصّ أو عدّة معيّنة مخصوصة، لا يتأتّى فيه إلغاء خصوصيّتهم من جهة عدم اختلاف أنظارهم أو قلّته، مع كثرة الاختلاف بين فقهاء هذا العصر.

و منها:

رواية الكشّي عن موسى بن جعفر بن وهب، عن أحمد بن حاتم بن ماهويه، قال: كتبتُ إليه- يعني أبا الحسن الثالث- أسأله عمّن آخذ معالم ديني؟ و كتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب عليه السلام إليهما: (فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كلّ

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 639

مسنٍّ في حبّنا، و كلّ كثير القدم في أمرنا، فإنّهم كافوكما إن شاء اللّٰه)

«1». تقريب الاستدلال: أنّ مقتضى إطلاق الحكم فيها بالرجوع إلى من

ثبت له إحدى هاتين الصفتين، هو جواز الرجوع إليهما و إن وجد الأفضل منهما و لو مع المخالفة بينهم في الفتوى.

و لكنّها أيضاً ضعيفة السند، مضافاً إلى أنّ ظاهرها و أمثالها، أنّها في مقام توثيق عدّة من الرواة و تعريف أشخاصهم و تمييزهم، مع أنّ الرجوع إلى الثقة من المرتكزات في أذهان المسلمين بنحو العموم، فليست في مقام هذا الحكم الكلّي، مضافاً إلى عدم استفادة جواز الرجوع إلى كلّ فقيه و عالم منها، بل من ثبت له هاتان الصفتان في ذلك العصر، و منع إلغاء الخصوصيّة عرفاً، كما تقدّم.

و أمّا الاستدلال للمطلوب ببعض الأخبار الآمرة بالرجوع إلى بعض الأشخاص المعيّنين من الرواة، مثل إرجاع ابن أبي يعفور إلى محمّد بن مسلم «2»، و لذا قد يقال بدلالتها على جواز رجوع مجتهد إلىٰ مجتهد آخر، و قد تقدّم خلافه؛ لما عرفت من افتقاره إلى إلغاء الخصوصيّة عرفاً، و هو أيضاً ممنوع.

و أمّا إرجاع ابن أبي يعفور إلىٰ محمّد بن مسلم، فليس من قبيل إرجاع مجتهد إلى آخر في أخذ الفتوى و تقليده؛ لينافي ما ذكرناه سابقاً من عدم جواز ذلك، بل لأجل أنّه كان عنده علوم تلقّاها من الأئمّة عليهم السلام، لا يمكن معرفتها له إلّا بالرجوع إليه و تلقّيها منه، و هو أخذ الرواية منه مجرّداً، دون فتواه.

و أمّا التمسّك للمطلوب بالإجماعات المنقولة فهو أيضاً غير سديد؛ لأنّ

______________________________

(1)- اختيار معرفة الرجال 1: 15/ 7، وسائل الشيعة 18: 110، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 45.

(2)- اختيار معرفة الرجال 1: 383/ 272، وسائل الشيعة 18: 105، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 23.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 640

الاستدلال

بالإجماع إنّما يصحّ لو لم يكن في المسألة ما يحتمل استناد القائلين و المجمعين إليه؛ من بناء العقلاء أو حكم العقل، و فيما نحن فيه يحتمل استنادهم إلى بناء العقلاء أو حكم العقل، و معه فليس الإجماع كاشفاً عن الحجّيّة و وجود النصّ المعتبر.

أدلّة وجوب الرجوع إلى الأفضل
اشارة

استدلّ لوجوب تقليد الأعلم- مع مخالفته في الفتوى لغير الأعلم- بالمقبولة «1»؛ حيث إنّه بعد فرض الراوي اختلاف الحَكَمين في الحكم، حكم عليه السلام بالرجوع إلى الأفقه و الأعدل و الأصدق، مع ظهور الرواية في الشبهات الحكميّة أو الأعمّ منها و من الموضوعيّة، و من المعلوم أنّ الحكم بتعيّن نفوذ حكم الأفقه مستلزم لتعين اعتبار رأيه و نظره؛ إذ لا يعقل عدم تعيّن اعتبار فتواه- التي هي مستند حكمه- و اعتبار حكمه و نفوذه فقط، و بعد إلغاء خصوصيّة الدَّين و الميراث تشمل فتواه في غير باب القضاء، فتدلّ على اعتبار فتواه بما أنّها فتواه مطلقاً تعييناً.

و فيه أوّلًا: أنّ ظاهر المقبولة هو تقديم من اجتمعت فيه هذه الصفات أجمع؛ للعطف فيها بالواو، لا تقديم الأفقه فقط، كما هو المطلوب.

و بعبارة اخرى: مقتضاها اعتبار اجتماع هذه الصفات كلّها في الترجيح، لا بمجرّد الأفقهيّة.

و ثانياً: تعيّن اعتبار حكمه في الشبهات الحكميّة و إن استلزم تعيّن اعتبار فتواه في ذلك؛ لما تقدّم من أنّه لا يعقل تعيّن اعتبار حكمه دون فتواه التي هي مستند حكمه، لكن لا ملازمة بينهما في جانب السلب في فتوى المفضول و حكمه؛ بمعنىٰ أنّ عدم

______________________________

(1)- الكافي 1: 54/ 10، تهذيب الأحكام 6: 301/ 845.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 641

اعتبار حكمه و قضائه لا يستلزم عدم اعتبار فتواه؛ لأنّه من المحتمل أنّ عدم اعتبار حكمه

لانتفاء مقدّماته الاخر، لا لعدم حجّيّة فتواه، و هذا احتمال عقلائيّ.

و ثالثاً: لا نسلّم إلغاء الخصوصيّة بعد الفرق بين باب القضاء و بين باب الفتوى؛ لعدم تعقّل أمر القاضي المتخاصمين بالاحتياط أو التجزية فيه في الأوّل دون الثاني، فقياس باب الفتوى عليه قياس مع الفارق.

الثاني ممّا استدلّ به لتعيّن وجوب تقليد الأعلم: أنّ رأي الأعلم أقرب إلى الواقع، و كلّ من هو كذلك تعيّن تقليده عقلًا، ينتج وجوب تقليد الأعلم تعييناً.

أمّا الصغرى: فلأنّ نظره أصوب و أقرب إلى الواقع لفرض أعلميّته، و هو أخبر بمجاري الاصول و القواعد و مواقعها، و تمييز الدليل الحاكم عن المحكوم و مجاري البراءة و الاشتغال و غير ذلك، و المفروض أنّ نظره أقرب إلى الواقع و طريق إليه و كاشف عنه.

و أمّا الكبرى: فلأنّه إذا لم تكن لأنظار المجتهدين موضوعيّة و سببيّة، بل هي طريق كاشف عن الواقع، و أنّ ما هو المطلوب هو الأحكام الواقعيّة، فمع أقربيّة رأي الأعلم إلى الواقع يتعيّن لزوم اتّباعه و أخذ الفتوى منه عقلًا.

إشكال المحقّق الخراساني قدس سره صغروياً

و أورد في «الكفاية» على الصغرى: بأنّ فتوى غير الأفضل ربّما تكون أقرب من فتوى الأفضل؛ لموافقة فتواه لفتوىٰ من هو أفضل من هذا الأفضل من الأموات، فإنّ العقل لا يرىٰ تفاوتاً بين الأقربيّة في الأمارة؛ لنفسها أو لأجل موافقتها لأمارة اخرىٰ «1».

و أورد عليه بعض المحقّقين- الشيخ محمّد حسين الأصفهاني قدس سره- في الحاشية:

______________________________

(1)- كفاية الاصول: 544.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 642

بأنّ اعتبار الظنّ الحاصل من فتوى المجتهد ليس لأنّه ظنّ مطلق بالواقع، بل لأجل أنّه ظنّ خاصّ حاصل من رأي المجتهد المستند على الأدلّة الشرعيّة.

و حينئذٍ فما ذكره: من عدم الفرق بين الأقربيّة، لنفسه

أو لموافقته لأمارة اخرىٰ.

فيه: أنّ رأي الميّت في نفسه ليس حجّة، و ضمّ الحجّة إليه لا يفيد شيئاً من القوّة، فإنّ إلحاق الظنّ الغير المعتبر بالظنّ المعتبر كالحجر في جنب الإنسان، و حينئذٍ فالفرق بين المرجّحات الداخليّة و الخارجيّة قويّ «1». انتهى حاصله.

أقول: هذا الإيراد- مع قوّة فهمه قدس سره و دقّة نظره- عجيب منه، فإنّه قدس سره خلط بين الصغرى و الكبرىٰ، و إشكال صاحب الكفاية إنّما هو على الصغرى؛ أي أنّ رأي الأعلم أقرب إلى الواقع، فأشكل في «الكفاية» على ذلك بعدم عموميّة ذلك؛ أي كليّة الصغرى، و إشكاله قدس سره في محلّه؛ لما أفاده: من أنّه ربّما يوافق رأي غير الأفضل رأي الأفضل من هذا الأفضل من الأموات، فمقصوده قدس سره من هذا الإشكال نفي الصغرى لا الكبرى، و هي حجّيّة ما هو أقرب إلى الواقع عقلًا؛ فلا يرد عليه ما ذكره: من الفرق بين المرجّحات الداخليّة و الخارجيّة.

و بالجملة: إشكال «الكفاية» إنّما هو على الصغرى، و الإيراد المذكور عليه إنّما هو راجع إلى الكبرى، فهو في غير محلّه.

إشكال المحقّق الخراساني قدس سره كبروياً

و أمّا الكبرى: فأورد عليها في «الكفاية» أيضاً بما حاصله بتقريب منّا: أنّ الكلام هنا ليس في بناء العقلاء على تعيّن تقليد الأعلم، و لا لأنّه مقتضى الأصل

______________________________

(1)- نهاية الدراية 3: 215.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 643

العقلي في دوران الأمر بين التعيين و التخيير؛ للفراغ عن البحث فيهما، بل المقصود هنا إقامة برهان مركّب من صغرى وجدانيّة و كبرى عقليّة، فيرد على الكبرى: أنّ حكم العقل فيها: إن كان لأجل إحاطته بجميع ملاكات الأحكام الشرعيّة، فحكمه حينئذٍ قطعيّ جزميّ؛ بحيث لو ورد في الشرع ما هو بخلافه تعيّن طرحه؛

لأنّه خلاف الحكم العقلي القطعي، فهو ممنوع؛ لأنّه لم يعلم أنّ ملاك حجّيّة رأي الغير تعبّداً- و لو على نحو الطريقيّة- هو القرب إلى الواقع، و لعلّه لملاك هو في الأفضل و غيره سيّان، و لم يكن لزيادة القرب في أحدهما دَخْل في الاعتبار.

و بعبارة اخرى: ليس مطلوب الشارع هو الأحكام الواقعيّة، و إلّا تعيّن الاحتياط و إن استلزم العسر و الحرج و اختلال النظام، و لما صحّ التعبّد بالأمارات و الاصول، بل التعبّد بقول الأعلم أيضاً؛ للعلم بعدم مطابقة جميع فتاواه للواقع دائماً، فدعوى أنّ مطلوب الشارع هو الأحكام الواقعيّة خلاف ضرورة الفقه؛ ضرورة ثبوت التعبّد بالأمارات و الاصول، بل يعلم بعدم مطلوبيّة التجزّي في الاحتياط شرعاً أيضاً، بل المطلوب هي الأحكام الواقعيّة من طريق العمل بالأمارات و الاصول و سلوكها، و حينئذٍ فللشارع أن يحكم بتخيير المقلّدين بين تقليد الأعلم و غيره، بل له التعبّد بتعيّن الرجوع إلى غير الأعلم، فمع عدم امتناع ذلك لم تتمّ الكبرى المذكورة؛ لأنّ حكم العقل لا يجتمع مع احتمال الخلاف.

و إن اريد أنّ الأقربيّة إلى الواقع هي تمام الملاك، فهو ممنوع.

و إن اريد أنّه يمكن دَخْل الأقربيّة إلى الواقع في تعيّن الرجوع إلى الأعلم، مع قطع النظر عن الجهات الاخر، فهو لا يفيد المطلوب «1».

و أورد عليه المحقّق المذكور في الحاشية: بأنّه إن أراد عدم دَخْل القرب إلى

______________________________

(1)- كفاية الاصول: 544.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 644

الواقع في حجّيّة قول المفتي أصلًا، فهو منافٍ لطريقيّة رأيه إلى الواقع، مع اعترافه بأنّ رأي المجتهد حجّة من باب الطريقيّة.

و إن أراد أنّه ليس له تمام الدَّخْل فيها، بل جزؤه، و أنّ هنا خصوصيّة اخرى دخيلة في

حجّيّة رأيه أيضاً بنحو جزء الموضوع، فإمّا أنّ تلك الخصوصيّة جزء المقتضي للحجيّة، أو شرط لها.

و الأوّل: لا يُنافي وجوب تقليد الأعلم تعييناً؛ لأنّه عليه يشترك رأي الأعلم و غير الأعلم في جميع الخصوصيّات، لكن في رأي الأعلم خصوصيّة اخرى هي جزء المقتضي لحجّيّته، و هي الأقربيّة إلى الواقع المنتفية في رأي غير الأعلم، و حينئذٍ يجب تقديم الأعلم.

لا أقول: إنّه يقدّم على غير الأعلم في جميع الخصوصيّات.

بل أقول: إنّ تلك الخصوصيّة الموجودة في رأيه المفقودة في رأي غيره، أوجبت تقديمه على غيره بنحو الإطلاق، أي كون الخصوصيّة شرطاً.

و على الثاني: فعدم منافاته لوجوب تقليد الأعلم أوضح؛ لأنّ الخصوصيّة الزائدة لا دَخْل لها في قرب الآراء إلى الواقع و بُعدها عنه؛ لأنّ الملاك في القوّة و الضعف في المقتضي، لا في الشرائط، و المفروض أنّ المقتضي في رأي الأعلم أقوىٰ، فوجب تقديمه، و لهذا لا مجال لمقايسة المقام على اعتبار البصر و الكتابة في القاضي؛ لأنّها مع الفارق؛ لأنّ المعتبر في القاضي هو أصل البصر و الكتابة، لا قوّة البصر و جودة الكتابة، بخلاف الفتوى و رأي المجتهد؛ حيث إنّه طريق إلى الواقع، فيعتبر فيه قوّة النظر و الرأي.

نعم لو قلنا بأنّ المراد بالأعلميّة قوّة نظره؛- بمعنى عدم زوال رأيه بتشكيك المشكّك، لا أنّ نظره أقرب إلى الواقع و أصوب- صحّت المقايسة المذكورة.

ثمّ قال: و من هنا يمكن إقامة دليل آخر على وجوب الرجوع إلى الأعلم، و إن

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 645

فرض عدم أقربيّة رأي الأعلم إلى الواقع، أو قلنا بعدم دَخْل الأقربيّة إلى الواقع في المقام، و هو أنّه إذا كان الأعلم أجود استنباطاً، و أخبر بمجاري الاصول و

غيرها تعيّن الرجوع إليه عقلًا؛ لإذعان العقل بلزوم تقديمه و إدراكه له؛ لأنّ التسوية بينه و بين المفضول مثل التسوية بين العالم و الجاهل، لا أنّ العقل متوقّف في ذلك «1». انتهى حاصله.

أقول: لا ريب في دَخْل القرب إلى الواقع في حجّيّة رأي المجتهد؛ لما تقدّم من أنّ رأيه أمارة إلى الواقع، لكنّ المدّعى هو أنّ علّة جعل الأمارة شرعاً، لا تنحصر في وجود المقتضي و انتفاء المانع، و بعبارة اخرى: ليست العلّة في جعل حجّيّة الأمارات منحصرة بالمقتضي و المانع، بل يمكن وجود مصالح عامّة هي العلّة في جعل الأمارات، مع أنّه كثيراً ما تخالف الواقع، كعدم لزوم العسر و الحرج و اختلال النظام، و إلّا يلزم عدم كون الشريعة سمحة سهلة، فليس التعبّد برجوع الجاهل إلى العالم و تقليد المجتهد في الأحكام الشرعيّة لخصوصيّة زائدة، بل لأجل مراعاة مصالح عامّة، لا ينافي ذلك مطلوبيّة الأحكام الواقعيّة للشارع، نعم في موارد عدم إصابة الأمارة للواقع، لا بدّ و أن يرفع اليد عن الأحكام الواقعيّة.

فما ذكر قدس سره: من أنّ القرب إلى الواقع إمّا جزء المقتضي لحجّيّة فتوى المجتهد، أو شرط، غير صحيح، فليس الأمر دائراً بينهما.

و أمّا الوجه الأخير الذي ذكره لوجوب تقليد الأعلم، ففيه: أنّه تقريب لأقربيّة فتواه إلى الواقع؛ حيث قال: إنّ الأعلم أجود استنباطاً، و هو صحيح.

لكن ما ذكره قدس سره: من إذعان العقل بعدم التساوي بينهما، و أنّ التساوي بينهما كالتساوي بين العالم و الجاهل.

______________________________

(1)- نهاية الدراية 3: 215- 216.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 646

فيه: أنّ اللّازم ممّا ذكره هو أنّه لو ورد التعبّد بقيام أمارة أو دلالة آية على جواز تقليد غير الأعلم هو طرحه؛ لأنّه

خلاف ما أذعن به العقل و حكم به، و لا أظنّ أن يلتزم هو قدس سره به.

فتلخّص: أنّه لا دليل على تعيّن تقليد الأعلم، و ما تقدّم: من بناء العقلاء عليه، و حكم العقل بالتعيين في دوران الأمر بين التعيين و التخيير، غير سديد فيما لو وافقت فتوى غير الأعلم فتوى الأعلم من هذا الأعلم؛ من الأموات أو من الأحياء الذي لا يجوز تقليده لفسقه و نحوه، بل الأمر حينئذٍ دائر بين التعيينيّين، لا التعيين و التخيير، و كذلك بناء العقلاء، فإنّه غير مسلّم في هذا الفرض الذي يكون رأي غير الأعلم أقرب إلى الواقع من جهة اخرى، فالحكم بتعيّن الرجوع إلى الأعلم بنحو الإطلاق غير سديد، و غاية ما في المقام: أنّ مقتضى الشهرة المدّعاة في تعيّنه «1»- بل الظاهر من المحقّق الثاني تسالم الأصحاب عليه و عدم النكير من أحد عليه «2»- هو أنّه أحوط.

هذا كلّه فيما لو علم بمخالفة المفضول للفاضل في الفتوى تفصيلًا، أو إجمالًا في الفتاوى المحصورة.

أمّا لو لم يعلم بمخالفتهما في الفتوى أصلًا، أو علم إجمالًا بها في فتاواهما الغير المحصورة، فيمكن دعوى بناء العقلاء على جواز الرجوع إلى المفضول، و كذلك دعوى شمول إطلاق الأخبار الآمرة بالرجوع إلى الفقهاء له، إن لم نقل بشموله للصورتين الأوّلتين، فإنّ إطلاق الأمر بالرجوع إليهم- مع احتمال المخالفة بينهما في الفتوى- دليل على الجواز. هذا كلّه في المتفاضلين في العلم.

______________________________

(1)- مطارح الأنظار: 276.

(2)- قاله في حاشيته على الشرائع على ما نقله عنه في الوافية: 301، و راجع مطارح الأنظار: 275.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 647

في حال المجتهدين المتساويين في الفضل

أمّا المجتهدان المتساويان في الفضل فالأقسام المتقدّمة متصوّرة فيه أيضاً: من أنّه إمّا أن

يعلم بمخالفتهما في الفتوى تفصيلًا، أو إجمالًا في المحصور و الغير المحصور، أولا؛ بل يحتمل ذلك، أو يقطع بموافقتهما فيها.

توضيح الكلام فيه: أنّ مقتضى القاعدة عقلًا و عرفاً في صورة العلم بالمخالفة تفصيلًا أو إجمالًا في المحصور هو التساقط؛ لما تقدّم: من أنّ حجّيّة فتوى الفقيه إنّما هي على الطريقيّة و الكاشفيّة عن الواقع، لا الموضوعيّة و السببيّة، و مع تعارضهما يستحيل الكشف عن الواقع. نعم لا مانع من العمل على وفق أحدهما الموافق للاحتياط، كما لو كان رأي أحدهما وجوب صلاة الجمعة و فتوى الآخر جوازها، فإنّه لا مانع من العمل بالأوّل و الإتيان بها، لكن ليس أحدهما أقرب إلى الواقع، فإنّ الاحتياط حسن لا متعيّن.

هذا كلّ الكلام على وفق القواعد الأوّليّة.

و أمّا ما هو مقتضى الأدلّة الاجتهاديّة و الأخبار، فقد يقال: إنّ حكم العقل بتساقطهما في الفرض ليس إلزاميّاً حتميّاً؛ بأن يمتنع التعبّد بأحدهما شرعاً، بل يمكن وقوع التعبّد بذلك، و حينئذٍ فيمكن الاستدلال لجواز ذلك بالأخبار، مثل ما في التوقيع:

(و أمّا الحوادث الواقعة ...)

إلى آخره «1»، و قوله عليه السلام:

(فاصمدا في دينكما على كلّ مُسِنٍّ في حبّنا ...)

إلى آخره «2»، و أمثال ذلك.

______________________________

(1)- إكمال الدين: 483/ 4، الغيبة: 290/ 247، وسائل الشيعة 18: 101، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.

(2)- اختيار معرفة الرجال 1: 15/ 7، وسائل الشيعة 18: 110، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 45.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 648

تقريب الاستدلال- على ما نقل عن شيخنا الحائري قدس سره «1»-: هو أنّا و إن لم نقل بشمول الأخبار- الواردة في اعتبار خبر الثقة- لما نحن فيه، لكن لا مانع من شمول إطلاق

الأخبار- الدالّة على اعتبار فتوى الفقيه- لصورة تعارضها؛ للفرق بين المقامين؛ لأنّ أخبار الثقات كثيرة متشتّة في أبواب الفقه، و قد امرنا بالأخذ بكلّ واحد منها تعييناً؛ لأنّ مفادها أنّ كلّ واحد منها حجّة كذلك، و الحجّة التعيينيّة ممتنعة في المتعارضين؛ لامتناع حجّيّة كلّ واحد من المتعارضين تعييناً، بل لا بدّ أن يكون بنحو التخيير، و لا يمكن شمول دليل واحد لكلتا الصورتين؛ يعني دلالته على حجّيّة كلّ خبر في غير صورة التعارض تعييناً، و في صورة التعارض تخييراً، بخلاف ما نحن فيه؛ لأنّه ليس مفادُ الأخبار الدالّة على اعتبار فتوى الفقيه، اعتبارَ رأي كلّ فقيه تعييناً بالنسبة إلى كلّ فتوى من فتاويه، فإنّ لكلّ فقيه أن يفتي من أوّل الفقه إلى آخره، و لا معنى للأمر بأخذ فتوى كلّ واحد من المجتهدين، فلا بدّ أن يكون المأمور بالأخذ منه هو صرف وجود الفقيه، لا كلّ واحد، و قوله عليه السلام:

(كلّ مسنٍّ في حبّنا)

لا يراد منه كلّ واحد منه عرفاً، بل المراد صرف وجوده، و حينئذٍ فيمكن دعوى شمول إطلاق تلك الأخبار لاعتبار فتوى صِرف وجود الفقيه؛ سواء وافقت فتواه فتاوى سائر الأفراد، أم لا.

أقول: أمّا ما أفاده قدس سره أوّلًا: من عدم إمكان شمول الأخبار الدالّة على اعتبار خبر الثقة لصورة التعارض.

ففيه أوّلًا: أنّه يمكن أن يقال: إنّ مفاد الأخبار هو حجّيّة كلّ واحد من أفراد الثقة تعييناً، و إحالة حكم صورة التعارض إلى حكم العقل، كما تقدّم نظير ذلك في المتزاحمين.

______________________________

(1)- انظر البيع، الشيخ الأراكي 2: 467- 468.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 649

و ثانياً: على فرض تسليم الفرق بين ما نحن فيه و بين باب التزاحم؛ لوجود المقتضي في المتزاحمين

معاً، بخلاف ما نحن فيه؛ بناءً على الطريقيّة كما هو الحقّ، لكن تقدّم في باب الاشتغال: بيان إمكان شمول قوله عليه السلام:

(كلّ شي ء حلال)

«1» لأطراف العلم الإجمالي و الشبهات البدويّة معاً، مع أنّ شموله للشبهات البَدْوية بنحو التعيين، و لأطراف العلم الإجمالي بنحو التخيير، مع أنّه دليل واحد، و أنّه يمكن الترخيص في كلّ واحد منهما بدليل واحد؛ لوجوه نذكر واحداً منها، و هو أنّ لقوله عليه السلام

(كلّ شي ء حلال)

عموماً أفراديّاً بالنسبة إلى كلّ واحد من المصاديق و إطلاقاً أحواليّاً بالنسبة إلى حالات الأفراد، فمفاده أنّ كلَّ فرد من أفراد المشكوك حلّيّتهُ حلالٌ مطلقاً؛ أي مع ارتكاب الآخر و عدمه، لكن يقيّد الإطلاق المذكور في أطراف العلم الإجمالي بما إذا لم يرتكب الطرف الآخر مع بقاء العموم بحاله، و النتيجة حينئذٍ الترخيص في كلّ واحد من أفراد الشبهة البدْويّة تعييناً، و في أطراف العلم الإجمالي تخييراً؛ من دون استلزامه لحاظ حكمين مختلفين في دليل واحد، فيمكن جريان هذا البيان في دليل حجّيّة خبر الثقة، و شموله لصورة تعارض الخبرين بنحو التخيير.

و أمّا ما ذكره من إمكان ذلك فيما نحن فيه، ففيه: أنّ مجرّد الإمكان لا يفيد في ثبوت وقوعه.

و دعوى شمول إطلاق الأمر بالرجوع إلى الفقيه لصورة العلم باختلاف الفتاوى أيضاً، مع كثرة الآراء المختلفة لهم.

ممنوعة؛ لما تقدّم من أنّ قوله عليه السلام:

(اصمدا في دينكما على كلّ مسنٍّ في حبّنا ...)

إلى آخره، ليس في مقام إيجاب الرجوع إلى الفقيه؛ لأنّه أمر مرتكز في أذهان العقلاء و معلوم، بل هو و أمثاله في مقام تشخيص من يرجع إليه و تعيين مصداقه، نظير

______________________________

(1)- الكافي 5: 313/ 40، تهذيب الأحكام 7: 226/ 989، وسائل الشيعة 12:

60، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 650

ما تقدّم في الأخبار التي استدلّ بها لحجّيّة خبر الثقة، بل لا تعرّض في الرواية للفقيه، فإنّ المراد من قوله عليه السلام:

(كلّ مسنّ في حبّنا ...)

إلى آخره، هو اعتبار التشيّع الراسخ فيه في المرجوع إليه، فلا إطلاق لها يشمل ما نحن فيه، نظير أمر المريض بالرجوع إلى الطبيب، فإنّه لا إطلاق له يشمل صورة العلم باختلافهم في الأنظار.

و استدلّ لذلك أيضاً بالمقبولة «1»؛ حيث إنّه يستفاد- من حكمه عليه السلام بترجيح قول الأفقه في صورة الاختلاف- أنّ مناط الحجّيّة موجود في قول غير الأفقه أيضاً، إلّا أنّه يرجّح قول الأفقه بالأفقهيّة، و هو مستلزم للتخيير عند تساويهما في الفقه «2».

و فيه: أنّ الرواية دالّة على تقديم حكم الأفقه، و أنّه لا يلتفت إلى الآخر، ثمّ الأخذ بالأشهر، و ترك الشاذّ النادر؛ لأنّ الأوّل بيّن الرشد، و الآخر بيِّن الغيّ، ثمّ بترجيح ما يخالف العامّة؛ لأنّ الرشد في خلافهم، فمن أين يستفاد منها حجّيّةُ قول كلّ واحد منهما، و وجودُ ملاك الحجّيّة في غير الأفقه و الأشهر، و لكن يرجّح الأفقه بالأفقهيّة على الآخر، مع الحكم فيها بعدم الالتفات إلى الآخر و ترك الشاذّ النادر؛ فمن أين يستكشف منه وجود ملاك الحجّيّة في الآخر؛ ليستلزم التخيير عند التساوي؟!

و يشهد لما ذكرنا: أنّه عليه السلام حكم بالاحتياط عند فقد المرجّحات، لا التخيير بينهما، مضافاً إلى أنّ ذلك إنّما يصحّ بناءً على الموضوعيّة و السببيّة في حجّيّة فتوى الفقيه، لا على الطريقيّة، و تقدّم أنّ الحقّ هو اعتبار فتوى الفقيه على الطريقيّة، و حينئذٍ فلا يستفاد- من الأمر بتقديم حكم

الأفقه- وجود الملاك في الآخر أيضاً.

و استدلّ «3» أيضاً:

بما رواه الكليني قدس سره عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان

______________________________

(1)- الكافي 1: 54/ 10، تهذيب الأحكام 6: 301/ 845، وسائل الشيعة 18: 75، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 1.

(2)- درر الفوائد: 714، البيع، الشيخ الأراكي 2: 466.

(3)- درر الفوائد: 714.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 651

ابن عيسى و الحسن بن محبوب جميعاً، عن سماعة، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمرٍ، و كلاهما يرويه: أحدهما يأمر بأخذه، و الآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟

قال: (يُرجئه حتّى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتّىٰ يلقاه)

. قال الكليني قدس سره: و في رواية اخرىٰ:

(بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك)

«1». و في رواية اخرى لسماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قلت: يرد علينا حديثان: واحد يأمرنا بالأخذ به، و الآخر ينهانا عنه.

قال: (لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأله).

قلت: لا بدّ أن نعمل بواحد منهما.

قال: (خذ بما فيه خلاف العامّة)

«2». و تقدّم احتمال اتّحادها مع ما قبلها.

تقريب الاستدلال بها- على ما حكي عن شيخنا الحائري قدس سره-: هو أنّ اختلاف الرجلين في أمر، ليس في مجرّد نقل ألفاظ الرواية من دون رأي للناقلين لهما، فإنّه لا يصدق عليه الاختلاف في الأمر، بل لا بدّ أن يراد منه الاختلاف في الأمر، بل لا بدّ أن يراد منه الاختلاف في نظريهما و رأييهما المستندين إلى الروايتين، مضافاً إلى أنّ قوله: «أحدهما يأمرنا، و الآخر ينهانا»، أيضاً ظاهر في اختلافهما في نظريهما المستندين إلى الروايتين.

______________________________

(1)- الكافي 1: 53/ 7، وسائل الشيعة 18: 77،

كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 5 و 6.

(2)- الاحتجاج: 357، وسائل الشيعة 18: 88، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 42.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 652

و على فرض تسليم عدم صدق ذلك في اختلاف رأي المجتهدين المستندين إلى الرواية، نقول: إنّ قوله في مرسلة الكليني قدس سره:

(بأيّهما أخذتَ من باب التسليم ...)

، تعليل للحكم بالتخيير، و إنّ العلّة له هو التسليم و الانقياد، و هذا التعليل جارٍ في اختلاف آراء المجتهدين المستندة إلى الأخبار أيضاً «1». انتهى المحكيّ عنه قدس سره.

أضف إلى ذلك دعوى إلغاء الخصوصيّة العرفيّة، فإنّها كما تعمّ الخبرين المنقولين بالمعنى كذلك الآراء المستندة إليهما.

و لكن لا يخفى ما فيه، فإنّه عليه السلام أمر بالإرجاء و التأخير إلى ملاقاة الإمام، و قوله عليه السلام:

(في سعة)

ظاهر في أنّه في السعة في أمر الواقعة، لا العمل بأحد الخبرين و التخيير في الأخذ بأحدهما، و لهذا قال عليه السلام في روايته الاخرى:

(لا تعمل بواحد منهما)

، فهذه الرواية على خلاف المطلوب أدلّ، على فرض شمولها لاختلاف الآراء و عدم اختصاصها باختلاف الروايات.

و أمّا مرسلة الكليني قدس سره فعلى فرض الإغماض عن ضعف سندها، لا يفهم منها تعليل أصلًا، وليت شعري من أين يستفاد منها: أنّ علّة التخيير هو التسليم لأمر اللّٰه؛ حتّى يتعدّى عن موردها إلى اختلاف المجتهدين في الفتوى، و أن يقال: كلّ ما فيه التسليم لأمر اللّٰه ففيه التخيير، مع أنّ التسليم في الروايات غير التسليم في الفتاوى، فلا وجه للتعدّي إليها.

و أمّا قضيّة إلغاء الخصوصيّة فقد تقدّم: أنّه إنّما يُسلّم لو فُهم ذلك المعنى من اللفظ، مثل «رجل شكّ بين الثلاث و الأربع»، الممنوع في المقام.

و

أمّا رواية الصلاة في المحمل «2» فقد عرفت: أنّ السؤال فيها إنّما هو عن الحكم

______________________________

(1)- راجع درر الفوائد: 714- 715.

(2)- تهذيب الأحكام 3: 228/ 583، وسائل الشيعة 3: 240، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 15، الحديث 8.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 653

الواقعي، و هي بمعزل عن مسألة التخيير.

و أمّا الاستدلال بسائر أخبار التخيير فقد تقدّم سابقاً: أنّا استقصينا الأخبار فلم نجد ما يصلح للاستدلال به سنداً و دلالة، إلّا رواية واحدة أو روايتين، و الواضحة الدلالة منها- رواية عوالي اللآلي «1» مرفوعاً عن زرارة- تختصّ باختلاف الروايات، لا الفتاوى، فإنّ المناط هو الانفهام العرفي من الأخبار، لا الدقائق العقليّة، و الاختلاف في الرأي في الانفهام العرفي غير اختلاف الخبرين و الحديثين.

______________________________

(1)- عوالي اللآلي 4: 133/ 229، مستدرك الوسائل 17: 303، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 2.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 655

الفصل الثاني حول شرط الحياة لمرجع التقليد

اشارة

اختلفوا في اشتراط الحياة في المجتهد الذي يرجع إليه و تؤخذ فتواه للعمل بها على أقوال: ثالثها التفصيل بين التقليد الاستمراري و الابتدائي؛ بالاشتراط في الثاني دون الأوّل «1».

و المشهور بين أصحابنا الاشتراط مطلقاً «2»، بل ادّعى في «جامع المقاصد» عليه الإجماع «3»، و حكى عن الشهيد قدس سره أنّه قال: إنّي تفحّصت كلمات الفقهاء، و لم أجد من ذهب إلى عدم الاشتراط «4».

و القول الثاني في خِيَرَة الأخباريّين «5» و بعض أهل الفتوى من أصحابنا،

______________________________

(1)- الفصول الغروية: 422 سطر 28، العروة الوثقى 1: 10، مسألة 9.

(2)- معالم الدين: 242، مناهج الأحكام و الاصول: 302، مطارح الأنظار: 252، كفاية الاصول: 544- 545.

(3)- انظر مطارح الأنظار: 253 سطر 16.

(4)- نفس المصدر.

(5)- الفوائد المدنية: 149- 150،

الاصول الأصيلة: 150، و نقله عنهم في مطارح الأنظار: 252، و كفاية الاصول: 544.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 656

كالمحقّق القمّي قدس سره «1».

مقتضى الأصل في جواز تقليد الميّت

و قبل الشروع في البحث لا بدّ من بيان مقتضى الأصل و القاعدة الأوّليّة فيه، فقد يقال: إنّ مقتضى الأصل عدم جواز تقليد الميّت، و إنّ الجواز يفتقر إلى الدليل.

توضيح ذلك: أنّ الذي تتحقّق به براءة الذمّة و فراغها عن التكاليف الواقعيّة، و يوافقه حكم العقل هو الإتيان بها قطعاً بالعلم التفصيلي، أو الإجمالي بالاحتياط، و أمّا ما وراء القطع من الأمارات و الاصول، فبراءة الذمّة بالعمل بها يحتاج إلى الدليل إمّا تأسيساً من الشارع المقدّس، أو إمضاء و الأمر في المقام دائر بين تقليد الحيّ و الرجوع إليه من بين المجتهدين، و بين جواز الرجوع إلى الميّت منهم أيضاً، و الأوّل مقطوع الجواز؛ لقيام الدليل عليه، و الثاني مشكوك فيه، و تقدّم مراراً: أنّ مقتضى حكم العقل- لو خُلّي و طبعه- في دوران الأمر بين التعيين و التخيير، هو التعيين.

و يرد عليه ما تقدّم أيضاً- في الإشكال على هذا الأصل في مسألة وجوب تقليد الأعلم- من أنّه بهذه الكلّيّة ممنوع، فإنّه و إن صحّ في صورة تساوي المجتهدين الحيّ و الميّت في الفضل و العلم و الورع و الصدق؛ لدوران الأمر حينئذٍ بين التعيين و التخيير، فإنّ احتمال اشتراط الموت في مرجع التقليد مقطوع العدم، بخلاف اشتراط حياته، و لكنّه في صورة أفضليّة الميّت من الحيّ- أو أورعيّته و أصدقيّته منه- لا يتمّ؛ لاحتمال تعيّن الرجوع إلى الأعلم الميّت شرعاً؛ لفرض أنّه أجود استنباطاً للأحكام الواقعيّة من الحيّ، و أصوب نظراً، و أحسن إدراكاً منه، فيحتمل تعيّن الرجوع

إليه

______________________________

(1)- قوانين الاصول 2: 273.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 657

شرعاً؛ لأنّ المفروض أنّ رأيه أمارة و طريق إلى الأحكام الواقعيّة، كما يحتمل تعيّن الرجوع إلى الحيّ؛ لاحتمال اشتراط الحياة في المقلّد، و حينئذٍ فهو من قبيل دوران الأمر بين التعيينيّين، لا بين التعيين و التخيير.

نعم يمكن تقرير الأصل بنحو آخر: و هو أنّ الإجماع قائم على عدم تعيّن الرجوع إلى الميّت؛ و إن كان أعلم و أفضل و أصدق؛ لعدم ذهاب أحد من الفقهاء إلى تعيّنه، بل الأقوال بين تعيّن الرجوع إلى الحيّ، و بين التخيير بينه و بين الرجوع إلى الميّت، فبملاحظة هذا الإجماع و الاتّفاق نقطع بعدم تعيّن الرجوع إلى الميّت مطلقاً، مع احتمال تعيّن الرجوع إلى الحيّ.

و بعبارة اخرى: احتمال تعيّن الرجوع إلى الميّت الأعلم من الحيّ و ان كان متحقّقاً- لو خُلّينا و أنفسنا- لكنّه منفيّ قطعاً بملاحظة الإجماع المنقول متكرّراً على تعيّن الرجوع إلى الحيّ، مع ما تقدّم من عدم ذهاب أحد من العلماء إلى تعيّن الرجوع إلى الميّت، كما تقدّم عن الشهيد قدس سره، و حينئذ فالمقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير.

التمسّك بالاستصحاب على جواز تقليد الميّت

اشارة

لكن استدلّ لجواز تقليد الميّت ابتداءً و استدامة حتّى بالنسبة إلى غير الموجودين في زمان حياة ذلك المجتهد بالاستصحاب، و قُرّر هذا الاستصحاب بوجوه متقاربة:

الأوّل: استصحاب حكم المجتهد، فيقال: إنّه كان جائز التقليد لكلّ مكلّف عامّيّ في زمان حياته، و يشكّ في بقاء الجواز بعد موته، و الأصل بقاء الجواز.

الثاني: استصحاب حكم العامّي المستفتي؛ بأن يقال: كان يجوز له تقليد هذا المجتهد في زمان حياته؛ و الرجوع إليه و العمل على طبق فتواه؛ مثلًا: كان لكلّ مكلّف الرجوع إلى العلّامة

قدس سره في عصره، و أخذ فتواه و العمل بها، و يشكّ في بقاء الجواز بعد موته، فيستصحب.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 658

الثالث: استصحاب حجّيّة رأيه- الثابتة في حياته- بعد موته.

الرابع: الاستصحاب التعليقي؛ بأن يقال: إن كان هذا المكلّف مدركاً لزمان حياته كان تقليده إيّاه جائزاً، فالآن كما كان.

الخامس: استصحاب الأحكام الفرعيّة الثابتة بفتوى الميّت في زمان حياته؛ حيث إنّها طريق معتبر إلى الأحكام الواقعيّة.

السادس: استصحاب الحكم الظاهري الذي هو مؤدّى الأمارات بناءً على القول بجعل المماثل ... إلى غير ذلك من التقريبات المتقاربة.

الإشكالات التي اورد على الاستصحاب

و اورد عليها بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه لا يخلو: إمّا أن يراد استصحاب الحكم الثابت في زمان حياته بنحو القضيّة الخارجيّة: أي للموجودين في زمان حياة المجتهد، و إمّا بنحو القضيّة الحقيقيّة؛ بأن يقال- كما ذكروا-: كلّ مكلّف لو وجد في زمان حياته، فهو بحيث لو وجد فيه جاز له الرجوع إليه و تقليده، و الآن كما كان.

فعلى الأوّل: فهو و إن صحّ بالنسبة إلى الموجودين في زمان حياته، لكنّه لا يصحّ بالنسبة إلى المعدومين فيه، الذي هو المطلوب.

و على الثاني: فإن اريد استصحاب الحكم الثابت في زمانه بنحو القضيّة الحقيقيّة منجّزاً، فلا حالة سابقة له بالنسبة إلى من لم يدرك زمان حياته؛ لأنّه لم يثبت بالنسبة إليه حكم منجّز فعليّ بجواز تقليده ليستصحب.

و إن اريد استصحابه بنحو التعليق ففيه: أنّ الاستصحاب التعليقي إنّما يصحّ فيما لو كان التعليق شرعيّاً، لكن التعليق فيما نحن فيه ليس كذلك، بل هو عقليّ؛ حيث إنّ الحكم المذكور إنّما ورد في الشرع منجّزاً، غاية الأمر أنّ للعقل إرجاعه إلى

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 659

التعليق؛ لحكمه بأنّه على تقدير وجود

هذا المكلّف في زمان حياة هذا المجتهد، جاز له تقليده، فيستصحب هذا الحكم التعليقي العقلي، و مثل هذا الاستصحاب لا يثمر ثمرة، و لا ينتج حكماً.

أقول: هذا الإشكال غير متوجّه؛ و ذلك لأنّه لا إشكال في أنّ كلّ واحدة من القضايا الحقيقيّة و الخارجيّة، من القضايا البتّيّة لا الشرطيّة، و كما أنّ الحكم الثابت في الاولى متعلّق بعنوان كلّيّ، كذلك في الثانية، غاية الأمر أنّ العنوان في الخارجيّة مقيّد بقيد، لا ينطبق إلّا على الأفراد الموجودة محقّقاً، و ليس الحكم فيها متعلّقاً بذات الأفراد و أشخاصها الخارجيّة، و ليس مفاد القضيّة الحقيقيّة- مثل: «كلّ نار حارّة»- كلّما لو وجد كان ناراً، فهو بحيث لو وجد كان حارّاً، بل إنّما ذكروا ذلك في مقام التقريب إلى أذهان المتعلّمين، و إلّا فهو في غاية الوضوح من الفساد، و كلّ قضيّة- سواء المحصورات، أم المطلقات التي هي في حكم المحصورات الإخباريّة و الإنشائيّة- هي قضيّة واحدة؛ و إخبار واحد، أو إنشاء واحد، فكما أنّ قولنا: «كلّ نار حارّة» إخبار واحد عن عنوان قابل الانطباق على الكثير، لا أنّه إخبارات متعدّدة بعدد مصاديق ذلك العنوان، و لذا لو قال: «كلّ نار باردة» فهو كذب واحد، لا أكاذيب متعدّدة، كذلك قوله تعالىٰ: «وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» «1» إنشاء و جعل واحد لوجوب الحجّ على عنوان المستطيع القابل للصدق على كثيرين، لا أنّه إنشاءات متعدّدة.

إذا عرفت ذلك نقول: إنّ نظير هذا الإيراد المزبور، وارد على استصحاب عدم النسخ المتّفق عليه بين العلماء؛ بأن يقال: إن اريد استصحاب الحكم الثابت أوّلًا على المكلّفين بنحو القضيّة الخارجيّة، فلا يفيد بالنسبة إلى الغير الموجودين في الزمان السابق.

______________________________

(1)- آل

عمران (3): 97.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 660

و إن اريد استصحابه بنحو القضيّة الحقيقيّة: فإمّا أن يراد استصحاب الحكم المنجّز، فلم يكن هذا الحكم منجّزاً بالنسبة إلى المعدومين في الزمان السابق الموجودين في هذا الزمان، أو يراد الاستصحاب التعليقي فلا مجال له في التعليقات العقليّة.

فكما يجاب عنه فيه: بأنّ المقصود استصحاب الحكم المنجّز الثابت على العنوان الكلّي؛ لاحتمال زواله عن هذا العنوان باحتمال النسخ، و يترتّب عليه بقاء وجوب الحجّ على عنوان المستطيع مثلًا، فيجب على كلّ من استطاع إليه سبيلًا في هذا الزمان، كذلك يجاب عن الإيراد المذكور فيما نحن فيه: بأنّ المراد هو استصحاب الحكم الفعلي المنجَّز، المتعلِّق بعنوان كلّيّ في زمان حياة المجتهد، و هو جواز تقليد كلّ مجتهد جامع للشرائط- المنطبق على العلّامة قدس سره مثلًا- بالنسبة إلى كلّ مكلّف، أو استصحاب حكم المجتهد؛ لقوله عليه السلام:

(أمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوامّ أن يقلّدوه)

«1»، فإنّه لا إشكال في جريان استصحاب هذا الحكم الفعلي المنجّز- المتعلّق بالعنوان الكلّي في زمان حياته- في هذا الزمان أيضاً، لو شكّ في بقائه، فكما أنّه لو وجد المكلّف في زمان حياته، و انطبق عليه عنوان متعلّق الحكم، وجب عليه تقليده، كذلك في هذا الزمان، فإنّه نتيجة هذا الاستصحاب، و ليس مثبتاً، و إلّا يلزم سدّ باب الاستصحاب رأساً، فهذا الإيراد غير متوجّه.

الوجه الثاني من الإيرادات: ما أورده المحقّق صاحب الكفاية، و حاصله: أنّه يعتبر في الاستصحاب بقاء الموضوع، و المناط في بقائه و عدمه هو نظر العرف، لا الدِّقّة العقليّة، و ليس الموضوع فيما نحن فيه- و هو رأي المجتهد و ظنّه بعد موته-

باقياً عرفاً؛

______________________________

(1)- الاحتجاج: 457، تفسير الإمام العسكري: 120، وسائل الشيعة 18: 94، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 10، الحديث 20.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 661

لأنّ الموت عرفاً عبارة عن انعدام من مات مع رأيه و ظنّه، و حشره و بعثه يوم القيامة إنّما هو من قبيل إعادة المعدوم في نظر العرف، و إن لم يكن كذلك حقيقة؛ لبقاء النفس الناطقة التي هي الموضوع حقيقة لتجرّدها، لكنّ المناط في الاستصحاب بقاء الموضوع عرفاً، و مع عدم بقاء الشخص و الرأي عرفاً لا مجال للاستصحاب المذكور «1». انتهى محصّله.

و أورد عليه المحقّق الأصفهاني في «الحاشية» «2» بما لا يصلح للإيراد على ما ذكره قدس سره: من إثبات تجرّد النفس الناطقة، و أنّها تستكمل بمرور الدهور و الأيّام، و أنّها و إدراكاتها موجودة باقية، و كذلك رأيها و اعتقاداتها، و أطال الكلام في ذلك.

و من الواضح اعتراف صاحب الكفاية بذلك، كما صرّح هو قدس سره به «3»، و لكن مدّعاه أنّ المناط في بقاء الموضوع في الاستصحاب، هو نظر العرف، لا الحقيقة، و الموضوع للاستصحاب في المقام غير باقٍ عرفاً، فلا يرد عليه هذا الإشكال.

و هذا الإشكال على الاستصحاب، قريب ممّا ذكره الشيخ الأعظم قدس سره على ما في التقريرات، و محصّله: أنّ الأحكام الشرعيّة على قسمين: واقعيّة متعلّقة بالعناوين الأوّليّة، و لا دَخْل لرأي المجتهد فيها، و ظاهريّة هي مؤدّى الطرق و الأمارات، التي لرأي المجتهد و ظنّه دَخْل في موضوعها، و ليس متعلّقها العنوان الأوّلي الواقعي، بل هي بما أنّها مظنونة الحكم متعلّقها، و الظنّ واسطة في ثبوت هذا الحكم، فالموضوع لوجوب اتّباع المجتهد أو جوازه هو العصير المظنون الحرمة مثلًا، لا

العنوان الأوّلي للعصير، و لا أقلّ من الشكّ في ذلك، و حيث إنّ الميّت لا ظنّ له و لا رأي، فلا مجال للاستصحاب المذكور لاعتبار بقاء الموضوع فيه.

______________________________

(1)- كفاية الاصول: 545- 546.

(2)- نهاية الدراية 3: 217.

(3)- كفاية الاصول: 545 و 546.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 662

ثمّ أورد على نفسه: بأنّا لا نسلّم دَخْل ظنّ المجتهد في الموضوع، بل الدخيل فيه هو قوله، و هو باق.

و أجاب عنه: بمنع ذلك؛ لأنّ أدلّة جواز الرجوع إلى المجتهد من الإجماع و السُّنّة و غيرهما: إمّا ظاهرة في اعتبار حياته، مثل «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ»* «1»، أو إطلاق لها يشمل حالة الموت الذي ينعدم به ظنّه أيضاً، و قوله حينئذٍ ليس مستنداً إلى الظنّ، فلا مجال حينئذٍ للاستصحاب؛ لاحتمال أن يكون الظنّ قيداً للموضوع، لا واسطة في ثبوت الحكم للموضوع، و هو كافٍ في عدم جريان الاستصحاب «2». انتهى حاصله.

أقول: لا بدّ في المقام من ملاحظة أدلّة جواز التقليد أو وجوبه، و العمدة منها هو بناء العقلاء، و أمّا الآيات و الروايات فبعضها ضعيفة الدلالة، و بعضها ضعيفة السند.

و حينئذٍ نقول: للعلم و الظنّ و نحوهما الحاصل للمجتهد حيثيّتان:

الاولى: أنّه صفة خاصّة قائمة بالنفس، نظير سائر أوصاف النفس، كالشجاعة و السخاوة و العفّة و نحوها، و هي من الأوصاف النفسانيّة.

الثانية: حيثيّة الأماريّة و الكاشفيّة عن الواقع.

و لا إشكال في أنّ اعتبار قول مثل الطبيب و نحوه- ممّن نظره طريق إلى الواقع- إنّما هو من الحيثيّة الثانية، فإذا حكم في واقعة بشي ء فنظره متّبع عرفاً ما لم يرجع عن نظره؛ من غير فرق بين زمان حياته أو موته، حتّى فيما لو زال علمه بمرض و هرم و نحوهما،

و لا يحتمل عند العرف و العقلاء دَخْل حياته و تأثيرها في كاشفيّة نظره عن الواقع، بل ظنّه و رأيه بنفسه كاشف عن الواقع حتّى بعد مماته، و أنّه تمام الموضوع للكاشفيّة عنه في مقام العمل.

و بالجملة: لا إشكال في استقرار بناء العقلاء على العمل برأي أهل الخبرة

______________________________

(1)- النحل (16): 43.

(2)- مطارح الأنظار: 259- 260.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 663

و العلم من كلّ صناعة بعد الموت أيضاً، و إنّما الكلام في احتمال تصرّف الشارع في هذا البناء العقلائي؛ لاحتمال اشتراطه الحياة في تقليد المجتهد الذي يرجع إليه لمكان مصلحة فيه، و حينئذٍ يشكّ في بقاء جواز الرجوع إليه بعد موته، و بالاستصحاب يحكم ببقائه؛ لأنّ القضيّة المتيقّنة عين القضيّة المشكوكة، و الموضوع باقٍ أيضاً، و هو رأي الميّت في كتابه مثلًا، فتستصحب حجّيّته.

سلّمنا أنّ الحكم متعلّق بالمظنون، و لا أقلّ من احتمال ذلك- أي المقيّد بالظنّ- نظير الحكم بنجاسة الماء المتغيّر، فإنّ الموضوع له هو المقيّد بالتغيّر، و مع زواله لا يبقىٰ الموضوع، فلا يجوز استصحاب حكمه، لكنّه إنّما هو فيما إذا اريد إجراء حكم المتغيّر- بالاستصحاب- إلى الماء الغير المتغيّر بعنوانه الكلّي، فإنّه إسراء للحكم من موضوع إلى موضوع آخر، لكنّ المقصود ليس ذلك، بل الماء المتغيّر إذا وجد في الخارج، و انطبق عليه هذا العنوان الكلّي، و حكم عليه بالنجاسة، و زال تغيّره بنفسه، و شكّ في بقاء نجاسة هذا الموجود و عدمه، فإنّه يشار إلى هذا الماء «1»، و يقال: إنّه كان نجساً قطعاً، فالآن كما كان، و الموضوع- و هو هذا الماء- باقٍ قطعاً، و إنّما تغيّر بعض حالاته و أوصافه، و لم يعلم من الدليل حال

زوال التغيّر بمجرّد تقيّد الموضوع الكلّي للحكم، فكذلك يقال فيما نحن فيه: إنّ الدليل على حجّيّة رأي المجتهد، و إن لم يعلم شموله لما بعد موته، لكن بعد قيام الدليل على حجّيّة مظنونات المجتهد بنحو الكلّي، و وجد في الخارج مجتهد كالعلّامة قدس سره، و تعلّق ظنّه بحكم بموضوع، و انطبق عليه موضوع الدليل المذكور، تتحقّق هناك قضيّة متيقّنة، و هي أنّ ظنّ العلّامة قدس سره في كتابه «القواعد»- مثلًا- حجّة، ثمّ يشكّ في بقاء حجّيّته بشخصه بعد موته، فلا مانع من جريان

______________________________

(1)- لا يخفى أنّ المشار إليه في هذه القضية و موضوعها، ليس هو ذات الماء، بل الماء الموجود مع جميع خصوصيّاته و أوصافه، التي منها صفة التغيّر، فبعد زوال التغيّر لا يصحّ أن يقال: هذا الماء كان نجساً، فالآن كما كان. [المقرّر حفظه اللّٰه].

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 664

استصحابه، و الموضوع- و هو ظنّه في واقعه خاصّة- باقٍ قطعاً، فيستصحب.

و يمكن تقريب الإشكال المذكور هكذا: إنّ ظنّ المجتهد موضوع للحكم بجواز التقليد، و قد زال بالموت جزماً عرفاً، و لا أقلّ من الشكّ في بقائه و زواله، و هو كافٍ في عدم جريان الاستصحاب لاشتراط إحراز بقاء الموضوع فيه، بل يمكن أن يقال: إنّ الموضوع للحكم المذكور ليس هو الظنّ بالحكم، بل هو ظنّ المجتهد الحيّ؛ إمّا لظهور الأدلّة في ذلك، مثل: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ»*، أو لأنّه القدر المتيقّن من الإجماع و غيره من الأدلّة، و حينئذٍ فلا يجري الاستصحاب بعد موته و لو مع العلم ببقاء ظنّه بعد موته.

و بعبارة اخرى: من المحتمل أنّ الموضوع هو العنوان المقيّد؛ أي ظنّ المجتهد الحيّ، كما يحتمل أنّه ظنّ المجتهد حال

حياته؛ بأن لم تكن الحياة قيداً داخلًا في الموضوع، بل من حالاته، فكلّ واحد من الاحتمالين هنا ممكن متحقّق؛ لأنّ الدليل عليه لُبّيّ ليس موضوعه مبيّناً، فعلى الاحتمال الأوّل لا يكون الموضوع باقياً قطعاً، و على الثاني فهو باقٍ، و مع الشكّ في ذلك لا مجال لجريان الاستصحاب؛ لاعتبار إحراز بقاء الموضوع فيه، و ليس بمُحرَز في المقام.

أقول: يرد عليه:

مضافاً إلى ما ذكرناه: أنّ الموضوع للحكم المذكور هو ذات المظنون و الرأي- لا من حيث إنّه مظنون بوصف الظنّ- و هو باقٍ قطعاً.

توضيحه: أنّه لو تعلّق ظنّ المجتهد بحكم من الأحكام، فهنا ثلاثة أشياء:

الأوّل: ظنّ المجتهد بما أنّه ظنّ و صفة قائمة بنفس المجتهد، مع قطع النظر عن متعلّقه.

الثاني: ظن المجتهد مع ملاحظة إضافته إلى متعلقه؛ أي المظنون بما هو مظنون.

الثالث: ذات المظنون لا بما هو مظنون، و هو رأي المجتهد الموجود في كتابه.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 665

و ليس الموضوع للحكم المذكور أحد الأوّلين؛ لعدم تعلّق العمل بهما كي يقال:

بأنّه مرتفع بالموت جزماً، بل الموضوع له هو الثالث؛ لتعلّق العمل به، و هو باقٍ قطعاً.

و الإشكال المذكور ناشٍ عن الخلط بين الموضوع في القضيّة و الدليل الاجتهادي- الدالّ على اعتبار فتوى المجتهد و حجّيّة رأيه- و بين موضوع الاستصحاب، فإنّ موضوع الأوّل هو ظنّه الاجتهادي بما أنّه ظنّ و صفة، بخلاف الثاني، فإنّ موضوعه ذات المظنون؛ أي رأيه الموجود في كتابه، فيقال: هذا الرأي الموجود في الكتاب مظنون العلّامة قدس سره- مثلًا- و كلّ مظنونه حجّة؛ للدليل الاجتهادي الدالّ عليها، و حيثيّةُ كونه مظنوناً تعليليّةٌ لا تقييديّة، و كذا على فرض كونها تقييديّة، و فرض عدم المفهوم للقيد في الدليل الاجتهادي،

فإنّه حينئذٍ لا إشكال في بقاء الموضوع، فيستصحب حكمه.

ثمّ إنّه ذكر الشيخ الأعظم قدس سره في خلال كلامه ما حاصله: إنّه لو فرض أنّ رأي المجتهد عبارة عن نقل الخبر بالمعنى، فللاستصحاب حينئذٍ مجال، لكنّه ليس كذلك، فإنّ رأيه و ظنّه غير نقل الخبر بالمعنىٰ «1». انتهى.

أقول: لا يتفاوت الحال في جريان الاستصحاب و عدمه بين خبر الواحد و فتوى المجتهد؛ و ذلك لأنّ حجّيّة الخبر إنّما هي فيما إذا أخبر به جزماً، فإخباره الجزمي سبب لحجّيّة خبره، لا قطعه و جزمه، و أمّا لو أخبر ظنّاً، أو بنحو الترديد، فليس خبره حينئذٍ حجّة، فلو أخبر بشي ء جزماً، ثمّ مات، فلا ريب في بقاء حجّيّة خبره مع العلم بزوال جزمه و قطعه بالموت؛ لعدم زوال كاشفيّة خبره عن الواقع بالموت، و كذلك لو مرض أو هرم ما لم يعرض له الترديد، بل و مع حصول الترديد لمرض أو هرم؛ بحيث لا يعتني بترديده العقلاء لهرمه و نحوه.

______________________________

(1)- مطارح الأنظار: 260.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 666

و أمّا الفتوى فقد تقدّم مراراً: أنّ حجّيّتها إنّما هي من باب الطريقيّة، و حينئذٍ فجزم المجتهد بحكم في واقعة سبب لكاشفيّة رأيه عن الواقع، فلو علم عدم اعتبار الشارع شيئاً آخر- كالحياة- في حجّيّته، لما احتجنا في إثبات حجّيّة رأيه بعد موته إلى الاستصحاب؛ للعلم حينئذٍ ببقاء حجيّته؛ لبقاء كاشفيّة رأيه عن الواقع بعد الموت أيضاً، فالاحتياج إلى الاستصحاب إنّما هو لاحتمال اعتبار الحياة في كاشفيّة رأيه و حجّيّة فتواه، و لو احتمل ذلك في حجّيّة الأخبار أيضاً افتقر إلى الاستصحاب فيها أيضاً، فباب الأخبار و الفتوى كليهما من وادٍ واحد، و أنّ الجزم سبب لحجّيّة كلّ

واحد منهما، غاية الأمر أنّه يعلم ببقاء حجّيّة الخبر بعد موت المخبر جزماً من دون الافتقار فيها إلى الاستصحاب؛ للعلم بعدم اعتبار الحياة فيها، بخلاف الفتوى لمكان هذا الاحتمال فيها، و لذا احتجنا إلى الاستصحاب في بقاء حجّيّتها، و يثبت به بقاء حجّيّتها بعد الموت.

الوجه الثالث من الإيرادات على الاستصحاب المذكور: أنّه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحَب حكماً شرعيّاً أو موضوعاً ذا أثر شرعيّ، و ما نحن فيه ليس كذلك؛ لأنّه لو أفتى الفقيه بوجوب صلاة الجمعة- مثلًا- ففيه امور:

الأوّل: أنّ فتوى الفقيه أمارة على الحكم الواقعي.

الثاني: نفس الحكم الواقعي.

الثالث: حجّيّتها العقلائيّة.

الرابع: حجّيّتها الشرعيّة.

الخامس: جواز العمل بفتواه.

السادس: الحكم الظاهري المجعول على طبق الأمارة المماثل للحكم الواقعي، نظير أصالتي الطهارة و الحلّيّة الظاهرتين، و حينئذٍ فإن اريد استصحاب الأمارية العقلائيّة لفتوى الميّت، فهي ثابتة و متحقّقة بعد أيضاً لا شكّ في بقائها حتّى تستصحب.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 667

و إن اريد استصحاب حجّيّتها الشرعيّة، فقد تقدّم مراراً: أنّ الحجّيّة ليست مجعولة شرعاً، بل هي من الامور الانتزاعيّة العقلائيّة.

و إن اريد استصحاب جواز العمل على طبق فتواه شرعاً، فقد تقدّم: أنّ الأدلّة على اعتبار فتوى الفقيه و الرجوع إليه إمضائيّة، لا تأسيسيّة.

و إن اريد استصحاب الحكم الواقعي المستكشف من فتواه، فليس الشكّ هنا في بقاء الحكم الواقعي؛ من جهة احتمال النسخ، أو لفقدان ما احتملت شرطيّته له، كالحضور بالنسبة إلى وجوب صلاة الجمعة، بل الشكّ إنّما هو في بقاء حجّيّة فتوى المجتهد بعد موته.

و توهّم: أنّ ذلك يوجب سدّ باب الاستصحاب في الأحكام التي هي مؤدّى الأمارات.

مدفوع: بأنّا لا نمنع من استصحاب مؤدّى الأمارات لو احتمل ارتفاع الحكم الثابت بالأمارة؛ من جهة احتمال

النسخ، أو لانتفاء ما احتملت شرطيّته له، أو لعدم إحراز استعداد بقائه إلى زمان الشكّ، و ما نحن فيه ليس كذلك.

و إن اريد استصحاب الحكم الظاهري المجعول على طبق فتوى المجتهد؛ بناءً على القول بجعل المماثل.

ففيه: أنّه لا دليل على جعل الحكم المماثل في مؤدّى الأمارات، كما عرفت في محلّه، بل الوجه في حجّيّة الأمارات هو أنّها طريق إلى الواقع.

إن قلت: إنّ مقتضى وجوب الجزم بالنيّة في العبادات هو الالتزام بجعل المماثل؛ ليتمكّن المكلّف منه، و إلّا لا يمكنه الجزم بها.

قلت أوّلًا: أنّه لا دليل على وجوب الجزم بالنيّة في العبادات، و القدر المسلّم الثابت هو أصل النيّة و القربة فيها.

و ثانياً: على فرض تسليم وجوبه فيمكن الجزم بها هنا؛ لعدم احتمال الخلاف

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 668

في أذهان العقلاء في مثل فتوى الفقيه و نظر أهل الخبرة و غيرهما؛ ممّا استقرّ عليه بناؤهم، مثل اليد و نحوها، فيتحقّق الجزم بها.

و ثالثاً: الالتزام بجعل المماثل لا يوجب حصول الجزم بالنيّة و تحقّقه؛ بأن يصير سبباً و منشأً له؛ لعدم التفات العقلاء إلى هذا الجعل.

هذا، و يمكن دفع الإشكال المتقدّم على الاستصحاب: بأنّه قد يستكشف الحكم الشرعي- بمعنىٰ تحقّق الإرادة الجدّيّة من الشارع لا الأمر الشرعي- من موارد حكم العقل؛ بناءً على الملازمة بين حكم العقل و الشرع؛ إذ ليس المراد منها استكشاف أمر الشارع بذلك، بل استكشاف الإرادة الشرعيّة الجدّيّة التي هي أصل الحكم و روحه، أو من وجوب المقدّمات، أو من الأمر بالشي ء بناءً على اقتضائه النهي عن ضدّه، فإنّه ليس مراد القائل به اقتضاء الأمر الإنشائي نهياً متعلّقاً بضدّه، بل المراد استكشاف إرادة جدّيّة زجريّة بضدّه، التي هي الحكم

حقيقة، و الأوامر المتعلّقة بالعناوين، أيضاً إنّما تعدّ حكماً من جهة أنّها كاشفة عن إرادة جدّية هي الحكم حقيقة، و لهذا لا يجب الامتثال لو أمر بشي ء علم بعدم تعلّق إرادته الجدّيّة به، و على فرض الإتيان به فهو لا يعدّ امتثالًا يوجب المثوبة، و لا تركه مخالفة تترتّب عليها العقوبة، و لو علم بتعلّق إرادة المولى الجدّيّة بشي ء، و لكن لم يأمر به لغفلته، مع العلم بأنّه مطلوب إلزاميّ له، كإنقاذ ابنه الغريق؛ بحيث لو التفت إليه أمره به، فإنّه يجب تحصيل غرضه عقلًا و عرفاً.

و بالجملة: لو استكشف الحكم الشرعي- بمعنى الإرادة الجدّيّة- كشفاً جزميّاً، ثمّ شكّ في بقائه، فلا مانع من شمول أدلّة الاستصحاب له، كما يجري لو استكشفت الإرادة الجدّيّة من الأمر و الإنشاء اللفظي، و حينئذٍ ففي موارد استقرار بناء العقلاء على شي ء، كاليد و أصالة الصحّة في فعل الغير و العمل بخبر الواحد و رأي المفتي، مع سكوت الشارع عنه، مع كونه بمرأىً و منظر منه، يستكشف أنّه مرضيّ للشارع و أنّه تعلّقت إرادته الجدّيّة به، كشفاً جزميّاً، و إلّا فليس بناء العقلاء- بما هو- معتبراً

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 669

و حجّة، ثمّ بعد عروض ما يحتمل دَخْل عدمه في بقاء تلك الإرادة المنكشفة- كموت المجتهد المذكور- لا مانع من جريان الاستصحاب فيه.

و يمكن الجواب أيضاً في بعض موارد جريان الاستصحاب: بأنّه لا ريب في أنّه يُستكشَف من اتّفاق العلماء و إطباقهم على التخيير- في المجتهدين المختلفين في الفتوى المتساويين في الفضل في تقليد أيّهما شاء، مع أنّ مقتضى حكم العقل جزماً و القاعدة العقلائيّة، هو التساقط، كما في كلّ حجّة معتبرة من جهة الطريقيّة

و الكاشفيّة عن الواقع- وجود نصٍّ معتبر عندهم عليه، أو وصول هذا الحكم من الأئمة عليهم السلام يداً بيد، كشفاً جزميّاً، و لذا حكموا بالتخيير، لا وجوب الاحتياط، مع عدم جواز الرجوع إلى البراءة، و بعد موت هذين المجتهدين يشكّ في بقاء التخيير الشرعي المستكشف من إجماعهم و عدمه، فيستصحب؛ سواء أخذ فتوى أحدهما في زمان حياتهما و عمل به، أم لا و لكن أدرك زمان حياتهما، فينتج ذلك التفصيل بين ما لو أدرك زمان حياتهما- أي المجتهدين المتساويين في العلم- و عدمه؛ بجريان الاستصحاب في الأوّل فقط، دون الثاني، فيجري الاستصحاب المذكور في قسم واحد من الابتدائي، و هو ما إذا أدرك زمانهما، إلّا أنّ الإجماع قائم على عدم جواز تقليده الابتدائي مطلقاً.

و التحقيق الذي يمكن الاعتماد عليه في مقام التصديق و الإثبات: هو هذا التفصيل؛ لاقتضاء الاستصحاب المذكور له، أو أنّه لا بدّ من ملاحظة أدلّة المسألة، و العمدة منها- كما عرفت- هو بناء العقلاء، و إلّا فلا دليل لفظيّ من الآيات و الروايات يصلح للاستناد عليه في المقام؛ ليلاحظ مقدار دلالته.

و الإجماع المدّعى لجواز تقليد الميّت- الذي تطمئنّ النفس بتحقّقه فيه- إنّما هو ما ذكرنا؛ أي ما لو أدرك زمان المجتهدين المتساويين، و أمّا في غير ذلك فلا.

و أمّا بناء العقلاء فلا ريب في أنّ الثابت المرتكز في أذهانهم، عدمُ الفرق بين الحيّ من ذوي الخبرة في كلّ فنّ، و بين الميّت منهم؛ في الرجوع إليهم ابتداء و استدامة،

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 670

بعد ما عرفت: من أنّ رأيهم و نظرهم طريق إلى الواقع، كما لا فرق بين حال نومهم و يقظتهم و بين حال الهرم و غيره، إلّا

إذا تبدّل رأيهم و نظرهم عن علم و اجتهاد، فلا يعتبر رأيه الأوّل حينئذٍ عند العقلاء، فلو علم بعدم اعتبار شي ء آخر سوى ذلك، لم يفتقر إلى الاستصحاب و غيره، و لكنّ المفروض أنّ اعتبار بناء العقلاء و حجّيّته إنّما هو بسبب إمضاء الشارع له، و لا إشكال فيه بالنسبة إلى التقليد الاستمراري في المسائل التي عمل بها المكلّف، ثمّ مات ذلك المجتهد، فإنّه يمكن الاطمئنان بتحقّق إمضاء الشارع لبنائهم فيه، و لا ينقدح خلافه في أذهانهم، فإنّه لا يُعدّ بالموت من الجاهلين بالأحكام، و لا يخرج به عن ذوي أهل الخبرة فيها. بخلاف التقليد الابتدائي، بل يمكن أن يقال بعدم تعارف الرجوع إلى الميّت ابتداءً بين العقلاء، فالحقّ هو التفصيل بين الابتدائي و الاستمراري.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 671

الفصل الثالث في جواز العدول من مجتهد إلى آخر

هل يجوز العدول من مجتهد إلى آخر مساوٍ له في العلم و الفضل مع اختلافهما في الفتوى؟

ففي المقام صور كثيرة نتعرّض لبعضها:

الاولى: ما لو التزم بتقليد أحدهما و أخذ الفتوى منه؛ ليعمل على وفقها و لم يعمل بعدُ، و أراد العدول إلى الآخر؛ بناءً على القول بأنّ التقليد: عبارة عن الالتزام و عقد القلب على العمل على طبق فتوى المجتهد.

الثانية: لو عمل بفتوى أحدهما في واقعة، و أراد العدول إلى الآخر في تلك الواقعة، كما لو قلّد أحدهما القائل بعدم وجوب السورة في الصلاة، فصلّى الظهر بلا سورة، ثمّ أراد الرجوع إلى الآخر، و الإتيان بصلاة الظهر مع السورة في ذلك اليوم ثانياً على طبق فتوى الآخر.

الثالثة: العدول بعد الأخذ بفتوى أحدهما و العمل بها في واقعة إلى الآخر في غير تلك الواقعة من الوقائع المتأخّرة.

الرابعة: العدول بعد الأخذ بفتوى أحدهما و

العمل بها في باب من أبواب الفقه

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 672

- كباب الصلاة- إلى الآخر في غير هذا الباب كباب الصوم.

و أمّا الصورة الاولى: فذهب شيخنا الحائري قدس سره إلى عدم جواز العدول فيها؛ لأنّ مستند التخيير: إمّا إطلاقاته، مثل:

(بأيّهما أخذتَ من باب التسليم وسعك)

«1» و نحوه؛ بناء على استفادة التخيير منها في المقام أيضاً، أو لأنّه مقتضى الاستصحاب.

فعلى الأوّل: فعدم جواز العدول واضح؛ لأنّ الأمر فيها متعلّق بصرف الوجود للتخيير، و قد سقط بمجرّد الالتزام بتقليد أحدهما، و الأمر بالتخيير بعد ذلك من قبيل الأمر بتحصيل الحاصل، نظير الإتيان بصلاة الظهر بعد الإتيان بها بقصد الامتثال.

ثمّ أورد على نفسه: بأنّه كما لا يلزم تحصيل الحاصل في مثل «لا تشرب الخمر»؛ حيث إنّه يقيّد بكلّ زمان لا بنحو الظرفيّة، فكذلك يمكن التخيير في المقام بأن يؤخذ كلّ زمان قيداً له، فلا يلزم منه الأمر بتحصيل الحاصل.

و أجاب عنه: بالفرق بينهما؛ حيث إنّ الأمر التخييري هنا متعلِّق بإحداث التقليد إمّا على طبق رأي هذا المجتهد أو ذاك، و العقد القلبي- الذي هو عبارة عن الالتزام و البناء على الأخذ بفتوى المجتهد- من الامور الممتدّة الباقية، التي لا حدوث آخر لها بعد ذلك، بل وجوده بعد ذلك بقاء للأوّل، مثل وجود زيد في الأزمنة المتأخّرة عن زمان حدوثه، و ما هو مفاد الدليل و مدلوله هو جواز الأخذ بفتوىٰ هذا أو ذاك، لا الأخذ في زمان كذا و كذا؛ لعدم دَخْل الزمان في ذلك، و المفروض حصوله بالالتزام بالعمل على طبق رأي أحدهما، فالالتزام به على طبق رأي الآخر تحصيل للحاصل.

ثمّ قال: نعم يمكن أن يرد دليل آخر بلسان آخر، يدلّ على

التخيير بين الاكتفاء بهذا و بين الالتزام بالعمل ثانياً على طبق رأي المجتهد الآخر، لكن لا يمكن ذلك بالدليل الأوّل، نظير عدم إمكان الجمع بين قاعدة الطهارة و استصحابها في

______________________________

(1)- الكافي 1: 53/ 7، وسائل الشيعة 18: 77، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 6.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 673

قوله عليه السلام:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

؛ من جهة عدم إمكان الجمع بين اللحاظين.

هذا لو استُند في التخيير إلىٰ إطلاقات أدلّة التخيير.

و إن استُند فيه إلى الاستصحاب فكذلك؛ لعدم جريانه في المقام؛ لأنّه إن اريد استصحاب المعنى التخييري و حكمه فهو معلوم الانتفاء؛ لسقوطه بالالتزام بالعمل على فتوى أحدهما.

و إن اريد حكم آخر فلا حالة سابقة له، فإنّ المتيقّن السابق ليس إلّا التخيير.

ثمّ أورد على نفسه: بأنّه لا يُفتقر في المقام إلى استصحاب التخيير، بل هنا استصحاب آخر، و هو الاستصحاب التعليقي بأن يقال: إنّه لو كان قد قلّد المجتهد الآخر كان قوله حجّة، و الآن كما كان، فيستصحب هذا المعنى التعليقي.

و أجاب عنه: بأنّ ما هو الثابت المتيقّن في السابق هي الحجّيّة المبهمة الغير المتعيّنة، و إنّما تُعيَّن بالأخذ بفتوىٰ أحدهما، نظير الملكيّة المشاعة في الأموال المشتركة، فإنّ الإشاعة ترتفع بالإفراز و التقسيم. هذا كلّه بالنسبة إلى الصورة الاولى.

و أمّا الصورة الثانية: أي العدول من مجتهد- بعد الأخذ برأيه و العمل به- إلى آخر في الوقائع الاخر المستقبلة، كما لو صلّى الظهر بلا سورة على طبق هذا المفتي، و أراد العدول عنه إلى مجتهد آخر و تقليده بالصلاة مع السورة غداً، فالحكم فيها بجواز العدول و عدمه مبنيّ على أنّ المستفاد من أدلّة التقليد مثل

(و أمّا الحوادث الواقعة)

«1»، و

أدلّة التخيير مثل قوله عليه السلام:

(و بأيّهما أخذتَ من باب التسليم وسعك)

، هو أنّ التقليد: عبارة عن الالتزام بالعمل على فتوى المجتهد و العقد القلبي عليه، أو أنّه عبارة عن العمل برأيه.

فعلى الأوّل: فالكلام فيها هو الكلام في الصورة الاولى؛ لحصوله و تحقّقه

______________________________

(1)- إكمال الدين: 483/ 4، الاحتجاج 2: 542/ 344، وسائل الشيعة 18: 101، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 674

بالالتزام بتقليد الأوّل، فالعدول منه إلى الثاني تحصيل للحاصل.

و على الثاني: كما هو ظاهر قوله عليه السلام في رواية اخرى:

(بأيّهما عملتَ من باب التسليم ...)

«1» إلى آخره، فلاستصحاب بقاء التخيير حينئذٍ بالنسبة إلى الوقائع المتأخّرة مجال، و يمكن شمول إطلاق أدلّة التخيير له أيضاً، و على فرض الإشكال في شمول إطلاق الأدلّة، فالاستصحاب المذكور كافٍ في المطلوب و إثبات بقاء التخيير «2». انتهى ملخّص كلامه قدس سره.

أقول: أمّا ما ذكره- من أنّه من قبيل الأمر بتحصيل الحاصل- ففيه: أنّه إنّما يصحّ لو كان الحكم التخييري نفسيّاً، كالتخيير في خصال الكفّارات الثلاث، أو بين الظهر و الجمعة، فإنّه بعد الإتيان بأحد أفراد الواجب المخيّر يسقط الأمر التخييري، و لا معنى للامتثال حينئذٍ ثانياً بالإتيان بالفرد الآخر له؛ سواء قلنا بأنّ الأمر في الواجب التخييري متعلّق بالجامع بين أفراده، و أنّ ذكر الأفراد إنّما هو للإرشاد إليه، أم قلنا بأنّه سنخ خاصّ من الواجب، و لكن ما نحن فيه ليس كذلك، فإنّ الأمر بالأخذ بالطرق و الأمارات التي منها فتاوى المجتهدين ليس من جهة أنّها مطلوبات نفسيّة، بل من جهة أنّها طريق إلى الواقع و كاشفة عنه، فإن كان المستفاد من أدلّة التخيير هو الحكم

بالأخذ بأحدهما عند التعارض، و أنّ هنا حكمين: أحدهما التخيير بينهما، و الثاني عدم جواز الجمع بينهما، فلا يجوز العدول حينئذٍ بعد الأخذ بأحدهما و تقليده؛ لعدم إمكان تبديل ما صدر منه أوّلًا- بالالتزام بالعمل على طبق رأي الأوّل- عمّا هو عليه و جعله بمنزلة العدم.

و أمّا لو قلنا بأنّه لا يستفاد من أدلّة التخيير إلّا التوسعة على المكلّف؛ بجواز

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام 3: 228/ 583، وسائل الشيعة 18: 88، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 44، مع اختلاف في اللفظ.

(2)- البيع، الشيخ الأراكي 2: 471.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 675

الأخذ بأيّهما شاء، فعلى القول بالإجزاء فيما لو قلّد أحدهما و إن خالف رأيه الواقع، فلا إشكال في عدم جواز العدول إلى الآخر أيضاً؛ لسقوط الأمر الواقعي بذلك، و إن قلنا بعدم الإجزاء فيما لو خالف رأيه الواقع. و إن كان المكلّف معذوراً في مخالفة الواقع، فأراد العدول إلى الآخر في الوقائع المتأخّرة، فلا يصدق مفهوم العدول و لا التخيير عليه؛ لأنّ تقليد المكلَّف لمجتهدٍ آخر في فعل آخر لا يعدّ عدولًا، لكن لو أراد العدول في تلك الواقعة بعينها؛ بالإتيان بفرد آخر من ذلك الفعل بتقليد مجتهد آخر؛ لكونه أفضلهما، فهل يجوز ذلك أو لا؟ نظير ما لو أمر المولى بإتيان الماء، فأتاه بماء في آنية، ثمّ أراد الإتيان بماء أعذب منه في آنية اخرى أجود من الاولى، فهل يصحّ ذلك؛ و أنّ اللّٰه يختار أحبّهما إليه، أو لا؟

لكنّ الظاهر أنّ ما نحن فيه ليس كذلك؛ لما عرفت من الفرق بين التكاليف النفسيّة و الطريقيّة؛ لأنّ المطلوب في الاولى نفس المأمور به، و ليس وراءه شي ء آخر هو المطلوب،

بخلاف التكاليف الطريقيّة، فإنّ المطلوب فيها هو الواقع و الإتيان به، و إنّما أمر بالعمل بالطريق للإيصال إليه، و إلّا فنفس الطريق ليس مطلوباً بذاته، فبناء على القول بعدم الإجزاء لو خالف تقليده الأوّل الواقع، فلا مانع من الإتيان بالمأمور به ثانياً على طبق رأي المجتهد الثاني و تقليده؛ لمجرّد احتمال عدم موافقة الأوّل للواقع «1»، كما لو صلّى الظهر بلا سورة؛ لعدم وجوبها عند أحد المجتهدَينِ، و أراد الإتيان بها ثانياً مع السورة بتقليد المجتهد الآخر؛ لاحتماله بقاء التكليف الواقعي، و إن لم يجب ذلك عليه لأجل هذا الاحتمال و إن كان معذوراً، و ليس من التشريع المحرّم، نعم على القول بالإجزاء لا يصحّ العدول، و لا يجري هذا البيان.

و أمّا قياسه قدس سره ما نحن فيه بالملكيّة المشاعة التي هي من الامور الواقعيّة في

______________________________

(1)- و لا يخفى عدم صحّة هذا البيان فيما لو وافق رأيُ المجتهد الأوّل- الذي عمل على وفق رأيه- للاحتياط. [المقرّر حفظه اللّٰه].

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 676

وعاء الاعتبار، فقد ظهر ما فيه، بعد ما عرفت من الفرق بين التكاليف النفسيّة و بين الطريقيّة، و عدم المانع من الإتيان بالعمل ثانياً على رأي المجتهد الثاني؛ من جهة احتمال بقاء التكليف الواقعي في الثانية و إن لم يجب ذلك عليه، دون الأوّل، فإنّ الملكيّة المشاعة من الامور الواقعيّة كالتكاليف النفسيّة، فإذا افرزت بالتقسيم زالت الإشاعة حقيقة، و ليس وراءها شي ء آخر، بخلاف فتوى المجتهد، فإنّها طريق إلى الواقع و كاشفة عنه، الذي هو المطلوب، و هو- مع مخالفة فتواه للواقع- باقٍ بحاله؛ بناء على القول بعدم الإجزاء، فله الإتيان على رأي المجتهد الثاني، و إن لم يجب.

و

أمّا ما أفاده: من التفصيل- في الصورة الثانية- بين القول بأنّ التقليد: عبارة عن الالتزام و العقد القلبي على تقليد المجتهد، و بين القول بأنّه عبارة: عن العمل الخارجي على رأي المجتهد ... إلى آخره.

ففيه: أوّلًا: أنّه على الأوّل يبقى التفصيل بين الالتزام المذكور ابتداءً؛ بتقليد فقيه في واقعة و الالتزام بتقليد الآخر في سائر الوقائع المتأخِّرة، و بين الالتزام في الواقعة الحاضرة بتقليد أحدهما و عدم الالتزام بتقليد الآخر في الوقائع المتأخّرة، أو عزم على عدم التقليد له فيها؛ حيث إنّه لا معنى للتخيير في الأوّل بالنسبة إلى الوقائع المتأخّرة؛ لما ذكره قدس سره: من أنّه من قبيل تحصيل الحاصل، و أمّا على الثاني فإنّه لا مانع من شمول إطلاقات أدلّة التخيير له، لكنّه إحداث للتخيير، لا استدامة للأوّل.

و ثانياً: لو التزم بتقليده في الوقائع المتأخّرة أيضاً، و عزم على ذلك، لكن رجع عن هذا العقد القلبي و عزمه الباطني، فلا مانع حينئذٍ من الرجوع إلى الآخر؛ لانعدام الموضوع برجوعه عن عزمه الأوّل، فتشمله الأدلّة الدالّة على تخييره بين تقليد هذا أو ذاك بناءً على إطلاقها، و ليس هو مثل ما لو عمل برأيه في واقعة شخصيّة، و أراد الرجوع إلى الآخر في تلك الواقعة.

و أمّا ما ذكره: من أنّ التقليد لو كان عبارة عن العمل الخارجي على طبق رأي

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 677

مجتهد، فما لم يعمل بعدُ على رأي أحدهما فالتخيير باقٍ للاستصحاب.

ففيه: أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان الدليل على التخيير هو الإطلاقات و الأدلّة اللّفظيّة، مثل قوله عليه السلام:

(بأيّهما أخذت من باب التسليم وَسِعك)

«1». و أمّا لو قلنا: إنّ الدليل عليه هو الإجماع و نحوه من

الأدلّة اللُّبّيّة- التي لا إطلاق لها القاصرة عن بيان كيفيّة التقليد- فاللّازم هو الأخذ بالقدر المتيقّن- أي التقليد في الوقائع المتأخّرة- من المجتهد الأوّل الذي قلّده و عمل بفتواه في الواقعة الماضية، لا لأجل أنّه تقليد ابتدائيّ للمّيت بالنسبة إلى الوقائع المتأخّرة، بل لأجل أنّه نافذ على أيّ تقدير؛ لدوران الأمر فيه بين تعيين تقليده فيها، و بين تخييره بينه و بين تقليد الآخر، و القدر المتيقّن هو الأوّل؛ لاحتمال عدم جواز الثاني.

و أمّا الاستصحاب الذي ذكره: فإن أراد استصحاب الجامع بين التخيير الابتدائي و الاستمراري، يرد عليه ما تقدّم: من أنّ الجامع بين الحكمين ليس حكماً شرعيّاً، و لا موضوعاً يترتّب عليه أثر شرعيّ، و يعتبر في الاستصحاب أحد هذين الأمرين، فلا مجال لاستصحابه.

و إن أراد استصحاب خصوص التخيير الابتدائي أو الاستمراري، فالمفروض أنّه لم يثبت بالأدلّة أنّ التخيير بدْويّ أو استمراريّ، فإنّ التخيير على الأوّل هو حكم واحد بالتخيير بين تقليد هذا في جميع الوقائع، أو ذاك كذلك في الابتداء؛ بحيث لو عمل على رأي أحدهما في واقعة سقط التخيير، و على الثاني فمعناه أنّ المكلّف مخيّر في كلّ واقعة في تقليد أيّهما شاء، فله تخييرات؛ أي أحكام تخييريّة متعدّدة بعدد الوقائع، و حيث إنّه لم يعلم أنّه بدويّ أو استمراري، فلا مجال لاستصحاب أحدهما؛ لعدم العلم بالحالة السابقة.

______________________________

(1)- الكافي 1: 53/ 7، وسائل الشيعة 18: 77، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 6.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 678

ثمّ قال قدس سره: هذا في مقام الثبوت، و أمّا في مقام الإثبات و التصديق، فأدلّة التخيير ظاهرة في أنّ التقليد: عبارة عن العمل الخارجي على طبق رأي المجتهد استناداً

إليه، و حينئذٍ فمقتضى الأدلّة و الاستصحاب جواز العدول في الوقائع المتأخّرة إلى المجتهد الآخر «1».

و فيه ما تقدّم: من أنّه لا دليل لفظيّ في مسألة التقليد، و الأدلّة اللفظيّة التي استدلّ بها فيها، مثل:

(بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك)

، لا دلالة له في المقام، بل الدليل على رجوع المقلِّد العامّي إلى المجتهد هو الإجماع، و هو دليل لبّيّ لا إطلاق له، و لا مجال للاستصحاب فيه أيضاً.

______________________________

(1)- البيع، الشيخ الأراكي 2: 475.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 679

الفصل الرابع في اختلاف الحيّ و الميّت في مسألة البقاء

اشارة

لو قلّد مجتهداً ثمّ مات ذلك المجتهد: فإمّا أن يكون رأيه موافقاً لرأي المجتهد الحيّ في مسألة البقاء على تقليد الميّت- جوازاً أو وجوباً- أو في وجوب الرجوع إلى الحيّ، فلا إشكال، و كذا لو اختلفا، و كان فتوى الميّت فيها جواز البقاء، و فتوى الحيّ وجوب العدول إلى الحيّ، فلا إشكال أيضاً؛ حيث إنّ القدر المتيقّن هو الرجوع إلى الحيّ.

و إنّما الكلام و الإشكال فيما لو كان رأي الميّت وجوب الرجوع إلى الحيّ، و فتوى الحيّ وجوب البقاء، فإنّ فيه إشكالًا عقليّاً؛ لأنّه لو رجع إلى الحيّ في تلك المسألة، و بقي على تقليد الميّت، لزم من حجّيّة فتوى الميّت في المسائل الفرعيّة عدم حجّيّتها؛ لأنّ من فتاواه هي فتواه بوجوب الرجوع إلى الحيّ و عدم حجّيّة فتاواه بعد موته، و هذا نظير الإشكال المعروف في حجّيّة خبر الواحد «1»؛ حيث إنّ مقتضى أدلّة حجّيّته هو حجّيّة إخبار السيّد الإجماع على عدم حجّيّة خبر الواحد، فإنّه أيضاً من أخبار الآحاد، و يلزم من حجّيّتة عدم حجّيّة أخبار الآحاد التي منها خبر السيّد،

______________________________

(1)- انظر فرائد الاصول: 74، و فوائد الاصول 3: 177، و نهاية

الأفكار 3: 118.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 680

فيلزم من حجّيّة خبر السيّد عدم حجّيّته.

و أجاب عنه الشيخ الأعظم قدس سره في مبحث حجّيّة خبر الواحد: بأنّ هذا المحذور العقلي ناشٍ عن حجّيّة خبر السيّد فقط، فيطرح خبره؛ لعدم حجّيّته حينئذٍ، فتبقى سائر الأخبار خالية عن الإشكال «1».

كلام العلّامة الحائري قدس سره

اشارة

و أورد عليه شيخنا الاستاذ الحائري قدس سره بأنّه قدس سره قد دقّق النظر في الجواب عن الإشكال، و لكن النظر الأدقّ يقتضي عدم صحّة هذا الجواب؛ و ذلك لأنّ خبر السيّد بعدم حجّيّة خبر الواحد ينحلّ إلى أخبار متعدّدة، فإنّ مفاده: عدم حجّيّة خبر زرارة، و خبر محمّد بن مسلم ... و هكذا خبره هذا عن الإجماع على عدم حجّيّة خبر الواحد و الذي يلزم منه المحذور هو حجّيّة خبره هذا بالنسبة إلى هذا الخبر نفسه، و أمّا مفاده بالنسبة إلى سائر الأخبار فلا يلزم منه محذور، و حينئذٍ فيحكم بعدم حجّيّة خبره هذا بالخصوص، لا خبره بعدم حجّيّة سائر الأخبار، فإنّه لا يلزم منه محذور.

و بعبارة اخرى: إنّما يلزم المحذور من إطلاق خبر السيّد بعدم حجّيّة خبر الواحد الشامل لخبر نفسه، لا من أصل خبره بتمام مفاده، فخبره هذا بالنسبة إلى سائر الأخبار حجّة، فيقع التعارض بين خبره و بين أدلّة حجّيّة خبر الواحد، و اللّازم طرح خبر السيّد في مقام المعارضة، و ترجيح الأدلّة الدالّة على حجّيّة خبر الواحد؛ لأنّه لو رُجّح خبر السيّد على أدلّة حجّيّة خبر الواحد، يلزم التخصيص المستهجن في أدلّة حجّيّة خبر الواحد.

مضافاً إلى أنّه حينئذٍ يصير أشبه بالمعمّىٰ و اللّغز؛ و بيان عدم حجّيّة أخبار

______________________________

(1)- فرائد الاصول: 74.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 681

الآحاد

بلسان حجّيّتها، و هو استهجان آخر، فلا بدّ من ترجيح أدلّة حجّيّة خبر الواحد و طرح خبر السيّد «1».

و هذه المطالب- إشكالًا و جواباً- جارية فيما نحن فيه أيضاً؛ لأنّه يرد الإشكال:

بأنّه يلزم في مفروض المسألة من حجّيّة فتوى الميّت عدمها، و يتوجّه عليه جواب الشيخ قدس سره: بأنّ ما يلزم منه المحذور هو حجّيّة خصوص فتواه بعدم جواز تقليد الميّت، فتطرح تلك الفتوى، و يؤخذ بسائر فتاواه في المسائل الفرعيّة.

و يرد عليه إشكال شيخنا الاستاذ الحائري قدس سره: بأنّ المحذور إنّما يلزم من بعض مفاد هذه الفتوى، لا من تمام مفادها، فإنّ فتواه هذه تنحلّ إلى فتاوى متعدّدة؛ لأنّ معناها و مفادها عدم حجّيّة فتواه في الوضوء، و عدم حجّيّتها في الصلاة ... و هكذا كلّ واحدة من فتاواه في الفروع، التي منها فتواه هذه؛ أي حرمة البقاء على تقليد الميّت، و الذي يلزم منه المحذور هو شمول هذه الفتوى لنفسها، فليست هي حجّة بالنسبة إلى نفسها، لا بالنسبة إلىٰ سائر مفادها في عدم حجّيّة فتاواه في سائر الأحكام، و حينئذٍ فينزِّل المجتهد الحيّ نفسه منزلة المقلِّد في إجراء الاستصحاب، و يقع التعارض بين استصحاب حجّيّة فتواه في تلك المسألة الأصليّة- أي عدم جواز البقاء على تقليد الميّت في الفروع- و بين استصحاب حجّيّة فتاواه في سائر المسائل الفرعيّة؛ للتنافي بينهما، فلأحد أن يذهب إلى التخيير كما في المجتهدين المتساويين.

ثمّ قال: إنّ الاستصحاب المذكور في المسائل الفرعيّة: إمّا غير جارٍ، أو محكوم للاستصحاب في المسألة الأصليّة؛ أي استصحاب عدم حجّيّة فتواه في مسألة البقاء؛ لأنّه إن اريد من استصحاب فتاواه في الفروع، هو استصحاب الأحكام الواقعيّة من الواجبات و المحرّمات المستكشفة من فتواه، فهو

غير جارٍ؛ لأنّه و إن شكّ في بقائها،

______________________________

(1)- درر الفوائد: 386.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 682

لكن لا حالة سابقة متيقّنة لها في ظرف الشكّ: أمّا العلم الوجداني فواضح، و أمّا القطع التنزيلي فكذلك؛ لعدم تحقّق الحجّة في ظرف الشكّ على الواقع؛ للشكّ في حجّيّة فتواه بعد موته، فيرتفع القطع التعبّدي الحاصل في زمان حياته بعد موته.

و إن اريد استصحاب الحكم الظاهري الفرعي؛ أي جواز العمل بفتواه و رأيه في المسائل الفرعيّة، فإن كان الموضوع لهذا الحكم الظاهري هو رأي ذلك المجتهد بنحو الإضافة إليه، فأركان الاستصحاب متحقّقة؛ للعلم بجواز العمل بفتواه في زمان حياته، و الشكّ في جوازه بعد مماته، فيجري فيه الاستصح اب، لكن الاستصحاب الجاري في المسألة الأصليّة حاكم على هذا الاستصحاب؛ لأنّ الشكّ في جواز العمل برأيه في الفروع بعد مماته، ناشٍ عن الشكّ في حجّيّة رأيه في تلك المسألة الأصليّة؛ في عدم حجّيّة قول الميّت و فتواه في الفروع، و باستصحاب فتواه في تلك المسألة الأصليّة، يرتفع الشكّ في جواز العمل بفتواه في الفروع؛ لأنّ موضوع الحكم الظاهري هو المشكوك بما أنّه مشكوك، بخلاف الحكم الواقعي، و الأوّل في مرتبة متأخّرة عن الثاني، فلا يجري مع جريانه في الأوّل، و ليس مثبتاً؛ لأنّ أثره أعمّ من الواقعي و الظاهري.

و إن اريد استصحاب ذات قوله و رأيه من دون إضافته إليه، بل إضافته إليه جهة تعليليّة له، كان جواز العمل بهذه الفتاوى ثابتاً في الزمان السابق- أي زمان حياته- لأنّها رأيه و فتواه، فإمّا أن تعتبر علّيّته في الزمان السابق لجواز العمل، فالمفروض انتفاؤها بالموت، و إنّما المعلوم علّيّته في الزمان السابق- أي زمان حياته- و الشكّ في حجّيّة فتواه

بعد الموت، و إمّا أن تعتبر علّيّته له في الزمان اللّاحق الذي هو ظرف الشكّ، فالمفروض عدمها أيضاً؛ لقطعه بخلافه من جهة التنافي بين فتوييه في تلك المسألة «1». انتهى.

______________________________

(1)- البيع، الشيخ الأراكي 2: 488- 491.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 683

الإيراد على مختار العلّامة الحائري قدس سره

أقول: يرد عليه قدس سره:

أوّلًا: أنّ الشكّ في بقاء الحكم الواقعي إنّما يتحقّق إذا احتمل نسخه، أو انعدام ما احتمل شرطيّته له، كالحضور بالنسبة إلى وجوب صلاة الجمعة، أو وجود ما يحتمل اعتبار عدمه فيه، مع عدم وجود الحجّة و الأمارة التي يستكشف بها الحكم الواقعي في ظرف الشكّ، و أمّا إذا لم تتحقّق هذه الامور الموجبة للشكّ في بقاء الحكم الواقعي، فبمجرّد احتمال عدم حجّيّة رأي المجتهد بعد موته، لا وجه للشكّ في بقاء الحكم الواقعي.

نعم ما ذكره قدس سره صحيح بناءً على السببيّة في فتوى المجتهد، و لكنّه فاسد.

و ثانياً: ما أفاده: من حكومة الاستصحاب في المسألة الأصليّة عليه في المسائل الفرعيّة- بالنسبة إلى الحكم الظاهري- لو اخذ الموضوع قول المجتهد بنحو الإضافة؛ من جهة أنّ الشكّ في الثانية ناشٍ عن الشكّ في الاولى، فمع جريان الاستصحاب الحاكم- أي استصحاب رأيه بعدم جواز البقاء- يرتفع الشكّ في بقاء جواز العمل بفتاواه في سائر الفروع.

ففيه أوّلًا: أنّ الشكّ في الثانية ليس ناشئاً و مسبَّباً عن الشكّ في الاولى، بل الشكّ في كليهما ناشٍ و مسبَّب عن ثالث هو الشكّ في اعتبار حياة المجتهد في جواز تقليده و عدمه.

و ثانياً: سلّمنا ذلك، لكن قد تقدّم في باب مسألة الشكّ السببي و المسبّبي: أنّ المناط في التقديم هو أنّ يكون الأصل الجاري في السبب، منقِّحاً لموضوع دليل اجتهاديّ حاكم على الأصل الجاري

في المسبّب، و في الحقيقة لا تنافي بين الأصل السببي و الأصل المسبَّبي حتّى يقال: إنّ أحدهما حاكم على الآخر، فإنّ تقدّم

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 684

استصحاب الكرّيّة على استصحاب بقاء نجاسة الثوب المغسول بذلك الماء، إنّما هو لأجل أنّه منقِّح لموضوع دليل اجتهاديّ شرعيّ، يدلّ على أنّ كلّ كرّ مطهِّر، و هذا الدليل حاكم على الأصل المسبّبي، و مع عدم دليل اجتهادي كذلك- ينقّح موضوعه بالأصل السببي- فمجرّد نشوء شكّ عن شكّ لا يوجب التقديم، فاستصحاب السبب لترتّب المسبّب من الاصول المثبتة و إن كانت السببيّة شرعيّة؛ بأنْ جعل الشارع هذا سبباً لذاك؛ لأنّ ترتّب المسبّب عليه عقليّ، لا شرعيّ، كما فيما نحن فيه، مع أنّ السببيّة فيه ليست شرعيّة أيضاً.

ثمّ قال قدس سره: نعم يحتمل بقاء الحكم الواقعي، لكنّه غير مفيد في إثبات الحكم الظاهري لاختلاف رتبتيهما؛ لأنّ موضوع الأوّل هو العنوان الواقعي، و موضوع الثاني هو المشكوك بما أنّه مشكوك الحكم الواقعي، فالثاني في مرتبة متأخّرة عن الأوّل، فليس بقاء الحكم الواقعي بقاءً للحكم الظاهري، نعم الجامع بين الحكم الظاهري و الواقعي كان معلوم الوجود سابقاً، فلا بأس باستصحابه هنا؛ بناءً على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّيّ «1». انتهى.

أقول: فيه ما تقدّم من عدم جريان الاستصحاب في الجامع بين القسمين؛ لأنّه ليس حكماً شرعيّاً، و لا موضوعاً ذا أثر شرعيّ، و لا بدّ في الاستصحاب من أحد الأمرين.

مضافاً إلى أنّه قدس سره صرّح: بأنّ فتوى المجتهد في ظرف الشكّ ليس حجّة على الواقع؛ أي بعد موته، و حينئذٍ فهنا حكم ظاهريّ، و حكم واقعيّ تابع للحكم الظاهري؛ لأنّه كاشف عنه، و مع فرض جريان

الأصل في جانب السبب- و هي المسألة الأصليّة- يرتفع جواز العمل بفتواه الذي هو حكم ظاهريّ، و يتبعه زوال

______________________________

(1)- البيع، الشيخ الأراكي 2: 491.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 685

الحكم الواقعي أيضاً؛ لأنّه تابع له، و استصحاب الجامع إنّما يصحّ مع قطع النظر عن الإشكال المتقدّم، إذا لم يكن أحد الفردين تابعاً للفرد الآخر في الزوال، كما لو علم بأنّه لو لم يكن البقّ لم يكن الفيل، فإنّه لا يجري استصحاب الجامع بين الفردين فيه أيضاً، و ما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ المفروض أنّه مع زوال الحكم الظاهري الكاشف، يتبعه الحكم الواقعي المكشوف عنه في الزوال، فلا يصحّ استصحاب الجامع بينهما.

ثمّ قال قدس سره: و إن اريد استصحاب حجّيّة فتواه في المسألة الأصليّة، فالشكّ في حجّيّة فتاواه في سائر الفروع ناشٍ عن الشكّ في بقائها في تلك المسألة الأصليّة- أي فتواه في مسألة البقاء لعدم جواز البقاء على تقليد الميّت- و مع جريان الاستصحاب في جانب السبب يرتفع الشكّ في جانب المسبّب، و مقتضى جريان الاستصحاب في السبب عدم حجّيّة فتاواه في سائر الفروع، و ليس هذا الاستصحاب مثبتاً؛ لأنّ أثره أعمّ من الواقعي و الظاهري «1». انتهى.

و فيه أيضاً:- مضافاً إلى ما تقدّم من الكلام في استصحاب السبب- أنّ الحجّيّة غير قابلة للجعل، كما تقدّم مراراً، فلا يجري استصحابها و لا استصحاب عدمها.

ثمّ إنّه قدس سره عدل عن جميع ما ذكر، و قال: إنّ حكومة الاستصحاب في المسألة الأصليّة عليه في المسائل الفرعيّة، إنّما هي على تقدير الجريان، لكنّه لا مجال لجريانه فيها؛ لأنّه يعتبر في الاستصحاب الموضوعي ترتّب أثر شرعيّ على المستصحب، و لا يترتّب عليه في المسألة

الأصليّة أثر شرعيّ، بل نقيضه، فإنّه تستصحب حجّيّة فتواه؛ ليترتّب عليه سقوط فتاواه في الفروع عن الحجّيّة، و يتفرّع عليه وجوب العدول إلى الحيّ، نظير قول السيّد: «خبر الواحد ليس بحجّة إلّا خبر زيد، و أخبر زيد بأنّ كلّ خبر حجّة»، فلا يمكن شمول الأدلّة لخبر السيّد حينئذٍ؛ لأنّه ينتج نقيضه، و ما نحن فيه

______________________________

(1)- نفس المصدر.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 686

كذلك؛ لأنّه يراد من استصحاب حجّيّة فتوى الميّت في المسألة الأصليّة- أي مسألة البقاء على تقليد الميّت- العدول إلى الحيّ القائل بحجّيّة فتوى الميّت، فمرجعه إلى استصحاب عدم حجّيّة فتواه ليترتّب عليه إثبات حجّية فتاواه.

ثمّ أورد على نفسه:

أوّلًا: بأنّ فتوى الميّت في المسألة الأصليّة، هي عدم جواز الاتّكال على فتاواه في الفروع استقلالًا، لا مع فتوى الحيّ به.

و ثانياً: ليس المقصود من إجراء الاستصحاب في المسألة الأصليّة، إثبات حجّيّة فتاواه في الفروع، بل المقصود إثبات عدم حجّيّة فتاواه فيها، و حينئذٍ يرجع المقلِّد إلى الحيّ حسب ارتكازه، بعد ما يصير متحيّراً لا بالاستصحاب؛ ليلزم التناقض في مفاده.

و أجاب: بعدم الفرق في ذلك بين كون ذلك جزء مفاد الاستصحاب، و بين كونه لازماً له؛ في عدم إمكان التعبّد بذلك بالاستصحاب، و حينئذٍ فلا مجال للاستصحاب في المسألة الأصليّة، بخلافه في المسائل الفرعيّة «1». انتهى.

أقول: مرجع ما أفاده إلى اعتبار ترتّب الأثر الشرعي الفعلي على موضوع يراد استصحابه، و أنّه لا بدّ أن ينتهي الاستصحاب إلى العمل في كلّ موارده، و لازم ذلك عدم جريان الاستصحاب في جانب المسبّب أصلًا، لا أنّه جارٍ لكنّه محكوم للاستصحاب السببي، و كذلك لازمه عدم جريان الاستصحاب في مورد تعارض الاستصحابين، لا أنّهما جاريان و يتساقطان؛

و ذلك لعدم انتهاء الاستصحاب فيهما إلى العمل؛ لأنّ نتيجتهما هو سقوطهما أو حكومة أحدهما على الآخر، و لا أظنّ أن يلتزم هو قدس سره و لا غيره بذلك.

______________________________

(1)- البيع، الشيخ الأراكي 2: 492- 493.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 687

فلا إشكال في أنّ المعتبر في الاستصحاب هو ترتّب الأثر عليه ذاتاً و إن لم ينتهِ إلى العمل؛ لأنّ الاستصحاب قاعدة كلّيّة أو حكم مطلق، لم يلاحظ فيه الموارد الشخصيّة و ترتّب الأثر الفعلي في كلّ واحد من موارده، و إلّا يلزم المحذور المذكور، فيكفي فيه ترتّب الأثر عليه ذاتاً، كما فيما نحن فيه، فإنّه يترتّب الأثر على استصحاب حجّيّة فتواه في المسألة الأصليّة في نفسه و ذاتاً، و لكن مع تحيّر المكلّف و رجوعه إلى الحيّ القائل بوجوب البقاء، ينتج حجّيّة فتاواه في الفروع، و لا مانع منه.

ثمّ قال قدس سره: التي يرجع فيها أوّلًا إلى الحيّ بعد موت مقلّده، إنّما هي المسألة الأصليّة؛ أي في جواز البقاء على تقليد الميّت، لا المسائل الفرعيّة، و لذا صحّ له الحكم بجواز البقاء على تقليده في الأحكام الفرعيّة و إن خالف فتواه فيها.

نعم لو سئل في الأحكام الفرعيّة- كحكم صلاة الجمعة- لم يصحّ له الحكم بما يوافق فتوى الميّت فيها لو خالف رأيه فيها رأي الميّت، لكنّ المسؤول فيه عن الحيّ أوّلًا ليس ذلك «1». انتهى.

أقول: فرق بين وظيفة المجتهد الحيّ لنفسه و بين بيانه وظيفة الغير، و ما أفاده قدس سره إنّما يصحّ بالنسبة إلى وظيفة نفسه، و أمّا بالنسبة إلى الغير فحيث إنّه يرى أنّ فتوى مجتهده الميّت، كانت حجّة له في زمان حياته، مع شكّ المقلِّد في بقائها، فينزِّل نفسه منزلة

المقلِّد- كما ذكره قدس سره- فمع تحقّق اليقين السابق في حجّيّة فتاوى الميّت و الشكّ اللّاحق، يجري الاستصحاب، نظير ما لو تمّت و كملت أركان الاستصحاب في الموضوعات عند المقلِّد دون المجتهد، فله إعلام المقلِّد: بأنّ وظيفته الاستصحاب.

و الذي ينحسم به الإشكال و يمكن حلّه به، هو أن يقال: بعد ما التفت المقلِّد إلى أنّ فتوى مجتهده في المسألة الأصليّة، هو عدم جواز البقاء على تقليد الميّت، يرجع بعد

______________________________

(1)- نفس المصدر: 493.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 688

موته- حسب ارتكازه إلى المجتهد الحيّ غفلة عن الشكّ في بقاء حجّيّة فتواه و عدمها، و من دون الالتفات إلى هذا الإشكال في المسألة، كما هو الحال في كثير من العوامّ الخالية أذهانهم عن هذه المطالب العلميّة الدقيقة، فيعمل على طبق فتوى المجتهد الحيّ، و هي أمارة له، فلا كلام فيه.

و أمّا المقلّد الملتفت إلى هذا الإشكال، فحيث إنّه يرى أنّ مجتهده الذي مات، لم يجوِّز البقاء على تقليد الميّت حتّى في تلك المسألة الأصليّة، و سقوط فتواه في تلك المسألة عن الحجّيّة، فلا مناص له من الرجوع إلى الحيّ في تلك المسألة الأصليّة، و لا يجوز للحيّ الحكم ببقائه على تقليد الميّت في تلك المسألة الأصليّة؛ لعدم جريان الاستصحاب؛ لا في حقّ نفسه، و لا في حقّ مقلّده:

أمّا في حق نفسه فواضح؛ لعدم تحقّق الشكّ اللّاحق- المعتبر في الاستصحاب- له في الجواز، كما هو مفروض المسألة.

و أمّا في حقّ المقلِّد فلأنّ المفروض رجوعه في تلك المسألة إلى الحيّ، و فتواه أمارة له، و مع قيام الأمارة لا مجال للاستصحاب، و حينئذٍ فلا وجه للبقاء على تقليد الميّت في تلك المسألة، نعم للحيّ التجويز له

بالبقاء في سائر المسائل الفرعيّة.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 689

الفصل الخامس في تبدّل رأي المجتهد

اشارة

لو اضمحلّ الرأي السابق لمجتهد و تبدّل رأيه إلى آخر فإنّه يقع الكلام:

تارة: في تكليف ذلك المجتهد نفسه بالنسبة إلى أعماله السابقة على طبق رأيه الأوّل.

و اخرىٰ: في تكليف مقلّده بالنسبة إلى أعماله السابقة على طبق فتواه الاولى بعد الفراغ عن عدم الإشكال في وجوب العمل على طبق رأيه الحادث بالنسبة إليه و إلى مقلّده.

و قبل الشروع في البحث لا بدّ من تحرير محلّ الكلام، فنقول:

الكلام هنا في بيان مقتضى القواعد الأوّليّة، مع قطع النظر عن الدليل الخاصّ؛ من إجماع أو مثل قاعدة «لا تعاد» «1» و نحو ذلك، فإنّه خارج عن محلّ الكلام هنا، و كذلك محطّ البحث إنّما هو فيما لو أتىٰ بالمأمور به المركّب- الذي له أجزاء و شرائط و موانع- على طبق قطعه أو الأمارة القائمة عليه من حيث كيفيّة العمل، ثمّ تبدّل رأيه

______________________________

(1)- الفقيه 1: 225/ 8، الخصال: 284/ 35، وسائل الشيعة 1: 260، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 3، الحديث 8.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 690

بظهور إخلاله بشرط أو جزء له أو مع مانع بحسب نظره اللّاحق، فلو لم يأتِ بالمأمور به أصلًا، أو قطع بوجوب الصلاة فأتى بها، ثمّ ظهر له وجوب الصوم لا الصلاة- مثلًا- فهو ليس محلّ الكلام في الإجزاء و عدمه، و لم يقل به فيه أحد، فمحلّ الكلام إنّما هو فيما لو أتىٰ بالمأمور به على طبق قطعه أو الأمارة القائمة لديه؛ من حيث الأجزاء و الشرائط و الموانع، فظهر الخلاف من حيث كيفيّة المأمور به في الأجزاء و الشرائط.

إذا عرفت ذلك فهنا مقامان من الكلام:

المقام الأوّل في تكليف المجتهد بالنسبة إلى نفسه

اشارة

و تفصيل الكلام فيه: هو أنّ تبدّل رأيه يُتصوّر على وجوه؛ من حيث إنّ

مستند رأيه السابق: إمّا هو القطع؛ بأن قطع أوّلًا بعدم جزئيّة السورة- مثلًا- فصلّى بلا سورة، ثمّ تبدّل رأيه و زال قطعه.

و إمّا أمارة عقلائيّة أمضاها الشارع.

أو أمارة شرعيّة تأسيسيّة من الشارع.

و إمّا أصل عقلائيّ تعبّديّ أمضاه الشارع.

و إمّا أصل شرعيّ.

و كذلك مستند رأيه اللّاحق: إمّا القطع، أو أمارة عقلائيّة، أو أصل عقلائيّ، أو أمارة شرعيّة، أو أصل شرعيّ.

و الأصل الشرعي: إمّا من الاصول المحرِزة، مثل قاعدة التجاوز و نحوها، و إمّا غيرها ممّا اخذ الشكّ في موضوعه، مثل أصالة الحلّ و البراءة، و يرتقي الحاصل من

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 691

ضرب الستّة في مثلها إلى ستّة و ثلاثين صورة.

حال الفتوى المستندة إلى القطع

فالاولى: ما لو كان مستند حكمه السابق هو القطع بحكم، ثمّ تبدّل قطعه إلى القطع بالخلاف، و علم بمخالفة قطعه السابق للواقع، فلا إشكال في عدم الإجزاء فيه؛ لأنّ حجّيّة القطع ذاتيّة، و لم يتصرّف الشارع في طريقيّته أصلًا، بعد الفراغ عن أنّه طريق محض إلى الواقع، و أنّه بالقطع لا يتغيّر الواقع عمّا هو عليه، فمقتضى القاعدة فيه عدم الإجزاء و وجوب الإعادة أو القضاء؛ لبقاء المأمور به الواقعي بحاله.

حال الفتوى المستندة إلى الأمارات العقلائيّة

الثانية: ما إذا كان مستند حكمه السابق أمارة عقلائيّة معتبرة، كظاهر كتاب أو سُنّة و نحوهما من الأمارات العقلائيّة التي أمضاها الشارع، ثمّ قطع بالخلاف، فمقتضى القاعدة فيه أيضاً عدم الإجزاء؛ لأنّ حجّيّتها عند العقلاء من باب الطريقيّة و الكشف عن الواقع مع بقاء المأمور به على ما هو عليه في الواقع بحاله و عدم تغييره بقيام الأمارة، غاية الأمر أنّه معذور مع قيامها ما لم ينكشف الخلاف، و أمّا مع الانكشاف فلا.

حال الفتوى المستندة إلى الأمارات الشرعيّة

الثالثة: ما لو كان المستند في فتواه الاولى أمارة شرعيّة تأسيسيّة من الشارع، و لسان الدليل الدالّ عليها لسان الكاشفيّة و الطريقيّة إلى الواقع، كما لو فرض أنّ حجّيّة خبر الواحد كذلك، ثمّ ظهر الخلاف بالقطع، فمقتضى القاعدة أيضاً عدم الإجزاء، فإنّ المفروض أنّ اعتبارها شرعاً إنّما هو لأجل أنّها طريق إلى الواقع، جعلها

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 692

تسهيلًا على المكلّفين؛ لأنّ إيجاب الاحتياط موجب للعسر و الحرج و اختلال النظام، و هي لا تغيّر الواقع عمّا هو عليه، بل هو باقٍ بحاله، فمع حصول القطع بكذبها، يعلم بقاء المأمور به بحاله لم يتغيّر عمّا هو عليه في الواقع، فوجبت الإعادة أو القضاء و الإتيان بالمأمور به الواقعي، نعم هي عذر للمكلّف ما لم يقطع بالخلاف، و أمّا مع انكشاف الخلاف فلا.

هذا، و لكن استدلّ للإجزاء في هاتين الصورتين بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ إمضاء الشارع للأمارة العقلائيّة، أو جعله لها حجّة تأسيساً، يستلزم عدم مطلوبيّة الأحكام الواقعيّة على كلّ حال للشارع، و عدم تعلّق إرادته الجدّيّة بها كذلك، و إلّا لم يصحّ جعلها أو إمضاؤها، مع أنّها ربّما لا تصادف الواقع، بل يلزم إيجاب الاحتياط حينئذٍ لحفظ الواقع؛ و

لو أوجب العسر و الحرج الشديدين و اختلال النظام، فجعل الشارع لأمارة، أو إمضاءه بناء العقلاء على العمل بها، يستلزم رفع اليد عن الأحكام الواقعيّة عند عدم إصابة الأمارة للواقع و عدم جزئيّة الجزء أو الشرط، مع قيام الأمارة على عدمها، فصلّى كذلك، ثمّ انكشف الخلاف، و هو المراد من الإجزاء، بخلاف ما لو كان مستند الحكم الأوّل هو القطع؛ حيث إنّه لا يتصرّف فيه الشارع، و لا يمكنه الردع عن الجري العملي على طبقه.

أقول: المرجع في المقام هو نظر الموالي العرفيّة في أوامرهم التأسيسيّة أو الإمضائيّة، و لا ريب في أنّ حجّيّة الأمارات عندهم، إنّما هي لضعف احتمال الخلاف فيها و إلغائه و عدم الالتفات إليه، و أنّ مؤدّاها عندهم هو الواقع، فمع ظهور الخلاف و عدم موافقتها للواقع، لا يُجزي المأتيّ به على طبقها عن الواقع، و مسلك الشارع أيضاً هذا المسلك في الأمارات التأسيسيّة و الإمضائيّة، فإنّ الواقعيّات مطلوبة للشارع و مرادة له جدّاً، لكن حيث إنّه عارضت المصلحةَ الواقعيّة مفسدةُ إيجاب الاحتياط، أوجب العمل بالأمارة لا الاحتياط؛ لغلبة مطابقتها للواقع، فالحكم الواقعي باقٍ على

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 693

مطلوبيّته له في صورة المخالفة أيضاً، لكن يلزم رفع اليد عنها في هذه الصورة؛ في تلك الحال حيث إنّه لا سبيل له سوى ذلك، نظير رفع اليد عن وجوب إنقاذ أحد الغريقين، مع بقاء مطلوبيّته و بقاء مصلحته؛ حيث لا محيص عنه، و لذا لو تمكّن بعد ذلك من إنقاذه وجب، و مقتضى ذلك هو وجوب الإعادة أو القضاء؛ و الإتيان بالتكليف الواقعي عند انكشاف الخلاف.

الوجه الثاني: أنّ الظاهر من الأدلّة الدالّة على اعتبار الأمارات- تأسيساً أو إمضاءً- هو

الإجزاء، فإنّ لسانها كلسان أدلّة الاصول، فكما أنّ مفاد أدلّة الاصول هو ترتيب آثار الطهارة و الحلّيّة على مؤدّاها، كذلك أدلّة اعتبار الأمارات، فإنّ إيجاب العمل بها و إن كان طريقيّاً، لكن مرجعه إلى إيجاب المعاملة معها معاملة الواقع، و أنّ كيفية العمل بالعبادة هو ما أدّت إليه الأمارة، فلو قامت الأمارة المعتبرة على عدم مانعيّة لبس غير المأكول لحمه، فمرجع إيجاب العمل بها عدم مانعيّة ذلك في الصلاة واقعاً تعبّداً، و أنّ الصلاة معه مصداق تعبّديّ لها.

أقول: لو فرض ورود دليل تعبّديّ شرعيّ دالّ على إيجاب العمل بأمارة- مثل خبر الثقة- مثلًا تأسيساً، فالمتبادر منه- في المحيط الذي لا يكون اعتباره فيه، إلّا لأجل أنّه كاشف عن الواقع و لو كشفاً ناقصاً- هو أنّ اعتباره و إيجاب العمل به من الشارع، إنّما هو لجهة كشفه عن الواقع و حيثيّة طريقيّته إليه، لأجل تحصيله، لا أنّه تصرّفٌ في الواقع و تبديل له عمّا هو عليه، أو لأنّه تعبّد محض، و حينئذٍ فمع كشف الخلاف فالواقع باقٍ على ما هو عليه، و مقتضاه الإعادة أو القضاء و وجوب الإتيان به، و هو المراد من عدم الإجزاء في المقام. هذا بحسب الفرض.

لكن تقدّم مراراً: أنّه ليس في الأدلّة الشرعيّة و الأخبار، ما يدلّ على حجّيّة مثل خبر الواحد تأسيساً، بل ليس مفادها إلّا إمضاء طريقة العقلاء و بنائهم على العمل به، و أنّ مثل قوله عليهم السلام: «فلان ثقة» لا يدلّ على التأسيس، و آية النبأ و أمثالها

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 694

ردع عن العمل بخبر الفاسق، و لا تدلّ على إيجاب العمل بخبر العادل.

نعم قد وقع في الشريعة المقدّسة بعض التحديدات في

بنائهم، مثل اعتبار التعدّد في الموضوعات، لكنّه أمر آخر.

الوجه الثالث: ما أفاده شيخنا الاستاذ الحائري قدس سره، و حاصله: أنّ الأحكام الشرعيّة على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما يكون تحقّقه بالإنشاء بالأمر أو النهي.

الثاني: الأحكام الواقعيّة التي كشف عنها الشارع، كالطهارة و النجاسة.

الثالث: الأحكام العقلائيّة التي أمضاها الشارع، كالبيع و الصلح و نحوهما.

فلو تبدّل رأي المجتهد في أحد الأوّلين بقيام أمارة عليه، ثمّ انكشف الخلاف، فمقتضى القاعدة عدم الإجزاء؛ حيث إنّ للحكم الشرعي واقعاً محفوظاً- و إن كانت واقعيّته بنفس الإنشاء- و هو باقٍ لم يأتِ به بعد، فلا وجه للإجزاء حينئذٍ.

و أمّا القسم الثالث: فهو أيضاً على قسمين: قسم له واقع محفوظ أيضاً، كما لو قلنا: إنّ للبيع و النكاح واقعاً محفوظاً لا يتغيّر، فهو كذلك و مقتضى القاعدة فيه عدم الإجزاء.

و أمّا لو قلنا: إنّ الأسباب العقلائيّة غير مستقلّة في التأثير، بل هي جزء السبب، و الجزء الآخر المتمّم للسبب هو إمضاء الشارع لها، نظير إجازة المالك في البيع الفضولي، فمقتضى القاعدة فيه هو الإجزاء؛ و ذلك لأنّ المفروض صحّة اجتهاده على طبق الموازين الشرعيّة، و لم يتبيّن خطأه فيه بعد، لكن بعد الظفر بأمارة على الخلاف- من باب الاتّفاق في غير مظانّها مثلًا- تبدّل الموضوع إلى موضوع آخر، و الحكم الظاهري و إن كان طريقاً محضاً إلىٰ الواقع بتنزيل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع، لكن تنزيل الشارع مؤدّاها منزلة الواقع حقيقيّ واقعيّ، مع عدم كون مؤدّى الأمارة حقيقيّاً.

و بالجملة: هنا أمران:

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 695

أحدهما: قول زرارة- مثلًا- الذي هو مؤدّى الأمارة.

ثانيهما: قول الشارع بتنزيل الشارع له منزلة الواقع.

و الثاني حكم حقيقيّ، و الأوّل تنزيليّ، و الذي تبيّن خطؤُه هو الأوّل

لا الثاني، و بالثاني نقول بالإجزاء و نفوذ المعاملة؛ لأنّ نفوذها غير مقيّد بزمان خاصّ، و لا يحتاج في بقائها إلى سبب آخر، بل يكفي السبب الأوّل، نظير حصول الطهارة بوضوء الجبيرة؛ حيث إنّها ليست مقيّدة بزمان و ما دام العذر.

فإن قلت: إنّ تلك الإجازة مقرونة بالردّ؛ لأنّ المفروض أنّ الأمارة الثانية أقوى من الاولى، فهي ردع عن بناء العقلاء، و الإجازة المقرونة بالردّ غير مؤثّرة.

قلت: لا نسلّم الردع عنها، فإنّه لو أفتى المجتهد أوّلًا بجواز العقد بالفارسيّة؛ بالاجتهاد الصحيح على طبق الموازين الشرعيّة؛ لأمارة قائمة عليه، ثمّ تبدّل رأيه إلى اعتبار العربيّة لأمارة اخرىٰ دالّة عليه، ظفر بها في غير مظانّها، راجحة على الاولى بحسب القواعد الاجتهاديّة، فلا تنافي بين الأمارتين؛ حيث إنّ مفاد هذه اعتبارُ العربيّة في ذات العقد مع قطع النظر عن الطوارئ، لا بطلان العقد بالفارسيّة مطلقاً، و مفاد الأمارة الاولى عدم اعتبار العربيّة فيه مع الطوارئ، و هي في صورة الشكّ في الاعتبار، و لا تنافي بينهما، و حينئذٍ ففي الشرع عقدان: حقيقيّ، و هو الذي اعتبرت فيه العربيّة بحسب الحكم الواقعي الأوّلي، و عقد لا يعتبر فيه ذلك بحسب الحكم الظاهري، و كلّ واحد منهما مؤثّر في النقل و الانتقال.

فإن قلت: هذا نظير العقد الفضولي لو أمضاه غير مالكه بتخيّل أنّه المالك، ثمّ بان أنّه غيره، فكما أنّه لا يمكن أن يقال بتأثير هذا الإمضاء، كذلك العقد بالفارسيّة بالاجتهاد الأوّل الذي تبيّن خطؤُه.

قلت: هذا خروج عن موضوع البحث؛ لأنّ المفروض أنّ الاجتهاد الأوّل كان صحيحاً تامّاً على طبق الموازين الاجتهاديّة، و لم يتبيّن خطاؤه فيه، بل تبدّل

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 696

الموضوع إلى موضوع آخر

بعد ظفره بالدليل على الخلاف، فالاجتهاد الأوّل أيضاً صواب «1». انتهى.

أقول: وقع الخلط في كلامه قدس سره بين المعذوريّة و عدمها و بين الخطأ و الصواب، فإنّ المفروض أنّه تبيّن خطؤُه في الاجتهاد الأوّل، بعد الظفر على الدليل على الخلاف و إن كان معذوراً فيه؛ لأنّ المفروض أنّه جدَّ و اجتهد و استفرغ وسعه، و أنّ الظفر بالدليل على خلاف العادة، و لم يكن مقصّراً في الاجتهاد الأوّل، و هذا لا ينافي معذوريّته في خطأه في الواقع، و حينئذٍ نقول: إنّ المفروض صحّة اجتهاده السابق على طبق الموازين الاجتهاديّة، لكن حجّيّته إنّما هي لأجل بناء العقلاء، و إمضاء الشارع له أيضاً إنّما هو لأجل أنّه كاشف عن الواقع و طريق إليه، فالأمر بالعمل به حقيقيّ، لكنّه طريقيّ، لا أنّه مطلوب نفسيّ، و بعد ما كشف الخلاف- و عدم الأمر به واقعاً، بل تخيّل أنّه مأمور به- فلا أمر حتّى يُبحث عن اقتضائه الإجزاء و عدمه، فلا الاجتهاد السابق موافق للواقع، و لا الأمر بالأخذ بمؤدّاه.

فالظاهر أنّ ما أفاده قدس سره ناشٍ عن الخلط بين المعذوريّة و الصواب.

الوجه الرابع: تفصيل آخر نسب إلى السيّد الجليل صاحب العروة الوثقى، و ربّما يظهر من «الفصول» الميل إليه «2»، و هو التفصيل بين ما لو كان الاجتهاد الأوّل ظنّيّاً مستنداً إلى الأمارات، ثمّ تبدّل رأيه بالاجتهاد الظنّي، و بين ما لو تبدّل بالقطع بالخلاف؛ بعدم الإجزاء في الثاني و الإجزاء في الأوّل:

أمّا عدم الإجزاء في الثاني فلتبيّن خطؤُه و بقاء الواقع عمّا هو عليه فوجب امتثاله.

و أمّا الإجزاء في الأوّل فلعدم الترجيح بين الاجتهادين؛ حيث إنّ كلّ واحد

______________________________

(1)- البيع، الشيخ الأراكي 2: 433- 435.

(2)- الفصول الغرويّة: 409 سطر

10.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 697

منهما ظنّيّ، و لأنّه لا تأثير للاجتهاد الثاني فيما قبله من الأعمال، بل المؤثّر فيها هو الاجتهاد الأوّل «1».

و أورد عليه قدس سره أكثر من تأخّر عنه ممّن تعرّض لما ذكره، و الإيراد عليه في محلّه؛ لأنّ المفروض ظهور خطأه في الاجتهاد الأوّل؛ و تبيّن عدم موافقته للواقع بحسب الاجتهاد الثاني، فلو كان رأيه السابق جواز الصلاة في وَبَر ما لا يؤكل لحمه، و صلّى فيه، و رأيه اللّاحق عدمه، مع فرض ظهور خطأه في الاجتهاد الأوّل؛ لظفره بأمارة معتبرة عليه، فمفاد هذه الرواية و مقتضاها فساد الصلاة المذكورة بنحو الإطلاق؛ من دون اختصاصه بزمان دون زمان، فهو معذور في اجتهاده الأوّل؛ لأنّ المفروض أنّه بذل تمام جهده فيه، لكن تبيّن خطؤُه فيه من الأوّل، فلو لا ترجيح لأحد الاجتهادين على الآخر للزم جواز العمل على طبق اجتهاده الأوّل في الأعمال اللّاحقة أيضاً، و هو قدس سره لا يلتزم به، فالحكم بتعيّن العمل على وفق الاجتهاد الثاني، إنّما هو لأجل بطلان اجتهاده الأوّل و فساده.

حال الفتوى المستندة إلى الاصول

الرابعة: أن يكون مستنده في رأيه السابق هو الاصول الشرعيّة، كأصالة الطهارة- بناءً على شمولها للشبهات الحكميّة- و أصالة الحلّيّة و أصالة البراءة و الاستصحاب، لا العقليّة منها، ثم انكشف الخلاف، فالظاهر هو الإجزاء، كما هو مقتضى ملاحظة أدلّة الاصول المذكورة، و الجمع العرفي بينها و بين أدلّة الأحكام الواقعيّة.

فإنّ قوله عليه السلام:

(لا صلاة إلّا بطهور)

يدلّ على بطلان الصلاة في النجس

______________________________

(1)- حاشية المكاسب، السيّد اليزدي: 93 سطر 5- 9، مبحث الإيجاب و القبول.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 698

الواقعي، و كذلك قوله عليه السلام:

(لا تصلِّ في وَبَر ما لا

يؤكل لحمه)

، يدلّ على أنّها في وَبَره و جلده و لحمه فاسدة، و أنّه بحسب وجوده الواقعي مانع للصلاة، و هكذا أدلّة سائر الشرائط و الأجزاء.

و قوله عليه السلام:

(كلّ شي ء طاهر حتّىٰ تعلم أنّه قذر)

- بناء على شموله للشبهات الحكميّة- لا يراد منه أنّ الطهارة الواقعيّة مقيّدة بالعلم بها؛ للزوم التصويب المحال أو المجمع على بطلانه، فليس المراد منه جعل الطهارة الواقعيّة.

و لا إشكال أيضاً في الفرق بين لسان هذا الدليل و بين لسان دليل الأمارات؛ حيث إنّ للأمارات طريقيّة ناقصة إلى الواقع، و صالحة للكشف الناقص عنه، مثل خبر الواحد، بخلاف أدلّة الاصول، فإنّه ليس لموضوعها- أي الشكّ- أماريّة و طريقيّة إلى الواقع، و لا صلاحيّة الطريقيّة، و نفس أدلّتها أيضاً لا تدلّ على ذلك، و ليست أيضاً مثل إيجاب الاحتياط للتحفّظ على الواقع، بل لسانها لسان جعل الوظيفة عند الشكّ في الحكم الواقعي، و وجوب ترتيب الآثار، فالجمع العرفي بينها و بين أدلّة الأجزاء و الشرائط، هو أنّه تجب المعاملة مع الشكّ في الطهارة الواقعيّة، معاملة الطهارة الواقعيّة في تحقّق مصداق الطبيعة؛ بإتيانها مع الطهارة الظاهريّة و تحقّق الامتثال بها، فمفادها التوسعة في الطهارة التي هي شرط للصلاة، و هو المراد من الإجزاء، نظير حكم الشارع بالصلاة مع التيمّم مع فقدان الماء، الذي لا يتصوّر فيه انكشاف الخلاف، كما لا يتصوّر ذلك في الاصول الشرعيّة، بخلاف الأمارات؛ حيث إنّ أدلّتها إنّما تدلّ على وجوب العمل بها على أنّها طريق إلى الواقع، و أنّ مؤدّاها هو الواقع، فلا وجه للإجزاء فيها مع كشف الخلاف، و هكذا الكلام في حديث الرفع؛ حيث إنّه ليس المراد رفع الجزئيّة و الشرطيّة واقعاً عند الشكّ فيهما؛ ليلزم التصويب

المحال أو المجمع على بطلانه، بل المراد جعلُ الوظيفة عند الشكّ في التكليف، و ترتيبُ الآثار، و تحقّق مصداق المأمور به بدون الجزء لو شكّ في جزئيّته، و ذلك توسعة في الأجزاء

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 699

و الشرائط، و مرجعه إلى تقييد أدلّة الأجزاء و الشرائط بالعلم، و لا يلزم التصويب أيضاً، بخلاف تقييد الواقعيّات بصورة العلم بها.

و هكذا الكلام في أدلّة الاستصحاب؛ حيث إنّه ليس المراد من قوله عليه السلام:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

أنّ اليقين السابق أمارة على الواقع في ظرف الشكّ؛ إذ لا معنى لأماريّة اليقين السابق في زمان الشكّ، و ليس المراد الأمر بالبناء على وجود المتيقّن الواقعي في ظرف الشكّ، بل هو نهي عن نقض اليقين بالشكّ، فلا بدّ أن يراد به ترتيب آثاره؛ لانتقاضه حقيقة و تكويناً بتحقّق الشكّ، و مقتضاه الإجزاء بالتقريب المتقدّم.

و ممّا يدلّ على الإجزاء قوله عليه السلام في رواية زُرارة:

(لأنّك كنت علىٰ يقين من طهارتك فشككت)

بعد قول زرارة: «وَ لِمَ ذلك»؟ حيث يدلّ على أنّ ذلك كافٍ في صحّة الصلاة.

فالحقّ فيما لو تبدّل رأيه المستند إلى الاصول الشرعيّة، هو الإجزاء بملاحظة لسان أدلّتها، و أمّا أنّ المصلحة الواقعيّة متداركة أو لا، أو أنّ المصلحة الظاهرية وافية بالغرض أو لا، و أنّهما من جنس و سنخ واحد أو متعدّد، فممّا لا وجه للبحث عنه؛ إذ لا طريق لنا إلى معرفة ذلك ليبحث عنه.

نعم الذي يقتضيه مذهب العدليّة و يحكم به العقل، هو أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح و المفاسد النفس الأمريّة، و أمّا أنّها متداركة في موارد الاصول الشرعيّة أو لا، فلا سبيل لنا إلى معرفته، و المتّبع هو ظهور الدليل.

هذا كلّه بالنسبة إلى

وظيفة المجتهد نفسه.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 700

المقام الثاني في تكليف المقلِّد مع تبدل رأي مجتهده

و أمّا بالنسبة إلى مقلّده: فإن قلنا: إنّ المناط في الأماريّة و الاصوليّة في مستند الحكم، هي الأماريّة و الاصوليّة عند المجتهد- حيث نُزِّل منزلته- فالكلام هو الكلام في التفصيل الذي ذكرناه بالنسبة إلى وظيفة المجتهد نفسه.

و إن قلنا: إنّ فتوى الفقيه مطلقاً أمارة للمقلِّد، فمستند المقلِّد في جميع الأحكام هو الأمارة؛ سواء كان مستند الفقيه فيها أيضاً الأمارة أو الاصول الشرعيّة، كما هو المناط في رجوع العقلاء إلى أرباب الصنائع؛ لعدم اليقين و الشكّ بالنسبة إلى المقلِّد، و حينئذٍ فمقتضى القاعدة- عند تبدّل رأي مجتهده- هو عدم الإجزاء؛ و وجوب الإعادة أو القضاء بالتقريبات المتقدّمة في الأمارات.

الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، ج 4، ص: 701

هذا تمام الكلام في مباحث الألفاظ و الاصول العمليّة و التعادل و الترجيح و مباحث الاجتهاد و التقليد؛ تقريراً لأبحاث الاستاذ الأكبر و القائد الأعظم و آية اللّٰه العظمى سماحة الحجّة الحاج آغا روح اللّٰه الموسوي الخميني، أدام اللّٰه أيّام إفاداته و إفاضاته، و متّع اللّٰه المسلمين بطول بقائه.

و الحمد للّٰه ربّ العالمين على ما وفّقني لتقرير هذه المطالب النفيسة العميقة الأنيقة من البدو إلى الختم، مع ضعف الحال و قلّة البضاعة العلميّة، و تشتّت الأحوال، و عدم فراغ البال، و الشكر له، و الصلاة و السلام على سيّدنا محمّد و على أهل بيته الطاهرين.

و قد تمّ الفراغ من تقريره يوم الجمعة السادس عشر من شهر ذي القعدة الحرام- سنة 1377- سبع و سبعين بعد الثلاثمائة و الألف من السنين الهجريّة القمريّة على مهاجرها آلاف الثناء و التحيّة، بيد العبد الفاني حسين بن يحيى التقوي الاشتهاردي عُفي عنهما.

________________________________________

خمينى، سيد

روح اللّٰه موسوى، الاجتهاد و التقليد (تنقيح الأصول)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، تهران - ايران، اول، 1418 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.